الطبخة الفاسدة التونسية
20 رمضان 1436
أمير سعيد

أما وقد فعلها السبسي؛ فإن هامش الحديث حول مسارات متعددة للسياسة التونسية الداخلية يغدو ضئيلاً.

 

 

نحن نعاين "الطبخة الاستبدادية الفاسدة" التي تعودنا على رائحتها العفنة مراراً في كل بلد مسلم تريد طليعة منه أن يعود إلى هويته الإسلامية وينتزع استقلاله عن مجال "الاستعمار" البغيض الذي خنق الشعوب المسلمة منذ أكثر من قرنين، ولم يزل.
تستمر الشعوب في التهام الطبخة الفاسدة تلك، حيث لا توضع على طاولتهم سواها، وليس لديهم القدرة ولا الإرادة ولا الشجاعة لوضعها في مكب نفايات التاريخ وإحلال غيرها بدلاً منها.

 

 

بدأ السيناريو الاعتيادي..
عمليات عنف لا تخدم أي هدف، حتى لأي تنظيم مسلح يطمح للتغيير بالقوة؛ فمن شأن استهداف السياحة تجييش قطاعات شعبية عريضة تبلغ نحو 400 ألف تونسي يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا القطاع الاقتصادي المهم لتونس، والذي يمثل أكثر من 7% من الناتج القومي لتونس، ضد الفاعلين، كما أن مثل هذه العمليات لا تضعف الأنظمة الاستبدادية بل تشد عودها.. وهكذا يريد الفاعل.

 

 

ما حصل على شاطئ سوسة، وأسفر عن مقتل وإصابة أكثر من سبعين سائحاً، معظمهم بريطانيون، لا يرمي إلى "إقامة نظام إسلامي"، وإنما إلى النظام الذي عناه رئيس تونس المعين بطريقة انتخابية، قايد السبسي بقوله: "تونس دولة مدنية بدون مرجعية إسلامية أو دينية أخرى"، وقد توفر لها دستور ذو تأييد عريض، بحيث صرنا "نخضع لدستور لا مرجعية دينية له"، بحسب نص كلمته التي فرض فيها حالة الطوارئ.

 

 

 

أول أثر للعملية كان إغلاق ثمانين مسجداً اعتبرهم نظام السبسي "خارج سيطرة الدولة"، وهو تعبير يوحي بأن الحديث يخص مواقع عسكرية أو ما نحو ذلك، لا أماكن يمارس فيها المؤمنون عبادتهم! ثم لمّا صدر القرار الرئاسي بعد أسبوع كامل من الحادثة بإعلان حالة الطوارئ لمدة شهر، كان أحد أبرز ما رافقه هو إقالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى من منصبه - إلى جوار والي سوسة وعدد من المسؤولين الأمنيين – لسبب آخر عجيب يتعلق بمجرد استنكاره لعرض برنامج "عيال الله" الذي يستضيف مفكراً متطرفاً هو "يوسف الصديق" يجترأ على كتاب الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإرساله طلباً بوقف البرنامج لهيئة الإعلام السمعي البصري في رسالة رسمية جاء فيها أن هذا "النوع من الدس والتحريف لمعاني القرآن الكريم يذكّر بممارسات سابقة سلكها آخرون مثل سلمان رشدي الإيراني ومحمد أركون الجزائري، ومثل هذه البرامج هدمية للأمن الثقافي والعقدي".

 

 

 

إغلاق المساجد، إقالة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، يذكران بحالة دولة ربيعية شقيقة، ارتدت عن ثورتها؛ فأغلقت مساجد "خارج السيطرة"، وأقالت رئيس مجلس شؤونها الإسلامية ثم حكمت عليه بالإعدام. فهذان الإجراءان لا يتناسبان مع ما نقلته صحيفة الدايلي ميل البريطانية عن مصادر تونسية طبية في قسم الطب الشرعي في تونس العاصمة، تسريبها نتائج تشريح جثة سيف الدين الرزقي مهاجم عملية سوسة، أكدت فيها تعاطيه "جرعات من مخدر الكبتاجون المدمر قبل قيامه بالهجوم"، إذ إن المفترض حينها أن الإجراء الواجب اتباعه لا يكون بتقصد المساجد، وإنما المواخير والحانات وأوكار تعاطي المخدرات في تونس، إن صحت تلك التسريبات. فالجهة التي صدرت هذا الإرهاب ليست مسجداً بل حانة!

 

 

 

الطبخة فاسدة من طول مكثها في مطابخ أجهزة الاستخبارات، وهي تتدرج على هذا النحو: تسميم الوضع الأمني في البلد المستهدف بألا يختار هويته وينتزع استقلاله، تنفذ عمليات عنف لا مغزى لها، لا تضر سوى المشروع الإسلامي وحده، كونها ترتكب باسمه من دون أن تفيده قيد أنملة، ثم تواطؤ أمني واضح، وتقصير صارخ، بدلاً من القفز إليه يحدث قفز عليه إلى نقطة "تجفيف منابع الإسلام" أو "الإرهاب"، بإغلاق المساجد، وتسويد العلمانية، وتجريم الممارسة السياسية الإسلامية، وشيطنة القوى الإسلامية، ودمغها بالإرهاب، وأنها تمثل حاضنة للإرهاب، ولو كانت أول من يقاومه، ثم البدء بإجراءات متعسفة لقمع هذه القوى وإضعافها إن لم تنجح محاولات إماتتها تماماً.

 

 

هذا بالضبط ما يحدث في تونس، وحصل من قبل في كل بلد مشابه، وسوف يتكرر ما لم ينضج مقاومو هذا اللون من التركيع وسائل لكبحه وإفشاله.

 

 

 

 

في تونس، تقاعس الأمن في أداء واجبه، بحسب شهادات الشهود الذين لاحظوا مراقبة الأمن لإطلاق الرزقي لدفعات الرصاص من دون أن يحاولوا استهدافه، ولم يتحركوا إلا بعد أن ألقى عامل بناء قطع من السيراميك شجت رأسه قبل أن تتم تصفيته، وفي متحف بوردو أهمل الأمن أيضاً، وهذا الإهمال أو التواطؤ ليس حلهما تشديد الإجراءات على الإعلام والصحافة وإغلاق المساجد، وشيطنة الأحزاب الإسلامية، ولا دعوة الجيش إلى النزول بزعم تأمين البلاد، ولا بنشر مئات الجنود على الشواطئ! تلك إجراءات يعلم الجميع أنها ساذجة بالأصل، فترك مسلح يتمشى على الشاطئ يختار قتلاه بارتياح وتؤدة يشير إلى مؤامرة، وإن لم يُشر؛ فإنه لا يبيح فرض الرقابة على الصحف مثلاً كإجراء احترازي يمكنه توفير الحماية للسياح!

 

 

 

هذه الإجراءات لا تصلح إلا تمهيداً لموجة من القمع والترهيب، وفرض نسخة أكثر تطرفاً من العلمانية تقترب من الأتاتوركية التي باتت عنواناً لسياسات تمارس في بعض دول الربيع العربي التي ارتدت عن ثوراتها واتخذت إجراءات فاشية بحق شعوبها، لاسيما إسلامييها.

 

 

 

الطبخة نشم رائحتها الخبيثة في كل ربوع تونس، عرفناها من قبل إلى الشرق من تونس وإلى غربها، فلا تعدم "إرهابياً" حليفاً يؤدي دوره ببراعة في هذا؛ فهو يختار تصفية حساب تنظيم خارج تونس مع دول التحالف التي تقصفه "شكلياً" في سوريا والعراق، في هذا البلد تحديداً.. لا تسل لماذا أراد استهدافهم في تونس تحديداً، ولم يهاجمهم في أي من شواطئ أوروبا ما داموا هم المقصودون؟! وما الذي سيحققه من تحديد هذا المكان بالذات لمشروعه الإقليمي، فما دام يستقطب "مئات" الأوروبيين ويرسلهم إلى سوريا والعراق؛ فلماذا لا ينفذون له أجندته في ديارهم، خصوصاً في بريطانيا حيث المقاتلون يتدفقون من هناك بحسب تقارير غربية؟!

 

 

ولا تعدم "إرهابياً" يبرهن لفريق من الأوروبيين على أن تجربة الديمقراطية المنقوصة في تونس، كآخر النماذج الصامدة "قشرياً" في دول الربيع العربي، هي محضن جديد لـ"الإرهاب"، ومنطلقاً كـ"ليبيا" المتصارعة، ومصر المضطربة، لتصدير المهاجرين غير الشرعيين، و"الإرهاب" أيضاً، وبالتالي؛ فإن عسكرتها هي "أخف الضررين" لوقف هذا "الإرهاب" بالقوة، وهذا يمنح أنظمة أوروبية فسحة كبيرة من المناورة أمام شعوبها في تأييد الجيل الثاني من الديكتاتوريات العربية.

 

ثم لا تعدم نظاماً أمنياً محكماً إن أراد، متراخياً إن أراد، يقتات على مثل هذه الحوادث الدموية في إحكام قبضته، والتمهيد للعسكر للظهور في دور المنقذ، المانع لـ"انهيار الدولة" مثلما أقلق السبسي التونسيين في خطابه الأخير!

 

 

 

من اغتيال شكري بلعيد، إلى شاطئ سوسة، يمضي صانعو الطبخة الفاسدة، والوصفة السحرية لصنع الديكتاتورية في تسميم الأجواء في تونس، لإزاحة الإسلام من طريق دولة ديكتاتورية جديدة وليدة في المنطقة، ولا مقاومة حقيقية لهذا السيناريو الخبيث المتكرر، برغم كل محاولات وتنازلات "الإسلاميين" الهزيلة..