"داعش" و"بي كا كا" معاً ضد "العدالة والتنمية"
13 شوال 1436
أمير سعيد

لا غرابة في أن تشن تركيا هجمات متزامنة على مواقع تنظيم الدولة (داعش) وحزب العمال الكردستاني (بي كاكا)، وملاحقة المشتبه بالانتماء إليهما في ربوع البلاد؛ فتركيا باتت تواجه تحدياً متصاعداً منهما، إنما الغريب تلك "المصادفة" اللافتة لشنهما معاً حرباً على تركيا في هذا التوقيت بالذات.

 

 

 

يصعب لأول وهلة الاسترسال بناءً على تصريح نائب رئيس الحكومة التركي بولنت أرنتش حول مجزرة سوروج حين قال "لا يوجد بين القتلى أي مسؤول من البلدية، ولا أي مسؤول أو شخص يتبع لحزب الشعوب الديمقراطي، وهؤلاء لم يتواجدوا وسط الناس هناك، وبقوا بعيدين عن موقع الحادث، وهذا موضوع استخباراتي بحد ذاته"؛ فكلام كهذا يستشكل على كثيرين يجدون غضاضة في تقبل تنسيق أو جمع بين تنظيمين متباعدين ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، كـ"داعش" و"بي كا كا".

 

 

 

توازن التنظيمان في إسقاط القتلى في تركيا، ما بين 43 شخصاً قتلوا في أسبوع واحد في هجمات تنسب مسؤولية معظمها إلى اليسار الكردي، لاسيما "بي كا كا" وتستهدف بالأساس الشرطة ومدنيين، فيما قضى 32 في التفجير الذاتي لمنتسب لـ"داعش"، واستهدف شباباً جامعياً ينتمي للتيار اليساري الكردي، وقام الجيش باستهداف مواقع خارج تركيا، فيما شن الأمن التركي حملة اعتقالات استهدفت أكثر من ألف وثلاثمائة منتم أو مشتبه بالانتماء للمنظمتين و لجبهة حزب التحرير الشعبي الثوري. .. التوازن ليس هو المشكلة، لكن التزامن هو المثير للانتباه لأرنتش ولغيره بالطبع. 

 

 

المثير للانتباه أن الاضطرابات بدأت دون ضغط قوي على الطرفين، ونقل المعركة إلى الداخل التركي توافق تحديداً مع وجود حكومة تسوق أوساط المعارضة العلمانية لوصفها بالضعيفة، ارتكاناً إلى كونها حكومة مؤقتة لم يحظ رئيسها بتوافق حتى الآن يمكنه من تشكيل حكومة ائتلافية، وإيهاماً بمسؤوليتها عن وصول "الإرهاب" إلى داخل حدود تركيا.

 

 

هذا ما تريد المعارضة العلمانية أن ترسخه، وهذا ما عملت "داعش" و"بي كا كا" على دعمه بشعور أو بدون، بتعمد أو لا.. لاشك أنه توقيت سيء لأردوغان وحكومة العدالة والتنمية، وجيد إلى حد بعيد لمن يريدون باستقرار تركيا شراً، ولمن يريدونها أن تعود القهقرى أتاتوركية استبدادية.

 

 

صب علمانيو الأكراد، وقياديو تنظيم الدولة، الزيت على نار الأزمة التركية في وقت يدفع بنظامها بعيداً عن حلم "العثمانية"، وإذا كان مفهوماً أن تسعى القوى الكردية المناوئة لحكومة أردوغان لإحداث اضطراب يضغط على حزب العدالة والتنمية أثناء إجراء مشاورات حول تشكيل الحكومة أو يزيحها عنها تماماً؛ فإن المبادرة الأولى من تنظيم الدولة تبدو عصية على الفهم إلا على من يشكك في توجهاتها وفي رغباتها بإزاحة حكم أردوغان.

 

 

لكن بعيداً عن التكهنات؛ فكل طرف لديه مبرراته في تسخين الحدود التركية الجنوبية (سوريا والعراق)، والداخل التركي، فالأكراد لديهم تطلع جارف، وفرصة سانحة لتعزيز مشروعهم لإنشاء الدولة الكردية الكبرى، وقد تهيأت لهم ظروف عسكرية وسياسية لقطع مشوار طويل في هذا، لاسيما مع ضعف سلطة بشار الأسد، وتراجعات تنظيم الدولة في المناطق الكردية في سوريا لاسيما بعد تمكن القوات الكردية من الاستيلاء على تل أبيض وطرد العرب والتركمان منها، واقترابهم من تحقيق انتصارات قد تصل بين مناطق سيطرتهم الشرقية والغربية المكونة للإقليم الكردي في شمال سوريا، وبعد نجاح حزب الشعوب الديمقراطي (الواجهة السياسية لـ بي كا كا) في التمثيل البرلماني وتمكنه من عرقلة مشروع تركيا القوية أو العثمانية الجديدة التي خطا إليها أردوغان وحزبه خطوات وثابة خصوصاً في الآونة الأخيرة، واستقرار الأوضاع نسبياً في كردستان العراق..

 

 

تنظيم الدولة لديه أجندته التي لا تفرق كثيراً بين "بشار المرتد" و"أردوغان المرتد" وفقاً لأدبيات التنظيم، وتقدر أن النزاع السياسي في أنقرة يمكنه أن يفتح كوة ينفذ منها إلى تصدير تجربته إلى الداخل التركي، بخاصة أنه قد بات يشعر برغبة في الانتقام من حكومة داود أوغلو بسبب تعقبها لأنصار "داعش" وتفكيكها لبعض خلاياها في الداخل التركي، وشروعها بالتعاون مع الولايات المتحدة في تدريب "معارضة" سورية موالية لها، وفي الوقت عينه تقديم الدعم – بحسب هذا التنظيم – لجيش الفتح الذي حقق انتصارات في الشمال السوري خصمت كثيراً من رصيد "داعش"، يضاف إلى هذا أن استهداف ناشطين أكراد موالين لحزب العمال الكردستاني يمكن أن يعرقل حماسة أكراد تركيا للتواصل مع نظرائهم في سوريا، أو هكذا يمكن أن يتراءى لتنظيم الدولة.

 

 

هذه مبررات قد توفر "تفهماً" عند البعض لإقدام "داعش" و"بي كا كا" على استفزاز تركيا، لكن في المقابل إذا ما رصدنا حجم الضرر الذي يمكن أن يلحق بالطرفين وبقضيتيهما اللتين تحملان السلاح من أجلها؛ فإن مكاسبهما تتضاءل كثيراً أمام ما يجلبانه على نفسيهما بتلك المغامرة..

 

 

 

تدرك "داعش" أن استفزاز تركيا سيجلب لها متاعب كثيرة في وقت تمنى فيه بخسائر في الشمالين السوري والعراقي، وهي في حالتها تلك ليست في وضع يمكنها من خوض حرب على ثلاث جبهات معاً، آخرها مع دولة قوية كتركيا لم تنهكها الحرب أصلاً، والتنظيم يعلم أن حكومة أنقرة لطالما نأت بنفسها عن التدخل المباشر في الصراع الدائر في جارتيها سوريا والعراق، وتجنبت الانضمام إلى التحالف الذي تقوده أمريكا، وسترى أنقرة أنها ذهبت إلى "الحرب" مضطرة، وإلى فتح قاعدة إنجرليك التركية للأمريكيين بالتبعية لشن هجمات على مواقع التنظيم. وتدرك تبعاً لهذا أنها غير قادرة على اتخاذ أوضاع عسكرية هجومية مع تركيا، وقد يشير حفر قوات التنظيم لخندق في مدينة جرابس السورية الحدودية مع تركيا إلى شيء من هذا.

 

 

ويعلم "بي كا كا" أنه يراهن على فرس قد يخسره كل مكتسبات السياسة التي حققها جناحه السياسي، حزب الشعوب الديمقراطي، أو بعضها في حال توسع في رده على "داعش" في صورة الجيش والشرطة التركيين! لكنه يقدم مع هذا على شن حرب عليهما، ويستجلب مشكلات جمة لحزبه السياسي الذي أصبح لاعباً اعتبارياً في السياسة التركية بعد مضاعفة عدد نوابه في البرلمان التركي في الانتخابات الأخيرة.

 

 

 

هل في الأمر سر؟
الرافضون يقولون: لا، فتنظيم الدولة حتى الآن لم يتبن هجوم مدينة سوروج، كما أنه لم ينف اتهامات أنقرة له بالمسؤولية عنه، وهو لم يصعد كثيراً من نبرته حيال الهجمة التركية عليه، وهو يتلقى ضربات من التحالف سواء أجاءت من قواعد جوية عربية أو تركية، سيان. والعمال الكردستاني كذلك يرى أن مكاسبه قد تكون أعلى من خسائره في حال مارس ضغوطه في توقيت مناسب سياسياً في ظل وجود عدم استقرار سياسي مع رفض أحزاب المعارضة للتحالف مع حزب العدالة والتنمية.

 

 

 

أما المؤيدون، فلديهم منطقهم في أن الحزب ذا الجذور الإسلامية الذي يحكم تركيا منذ اثني عشر عاماً يتعرض لمؤامرة متعددة الأبعاد لإطاحته عن الحكم، وإلى جانب الولايات المتحدة التي تريد توريط تركيا في مستنقع الحرب، ونقل المعارك إلى داخلها، وإلحاق ضرر بالغ باقتصاد السياحة والاستثمار التركيين، وإحداث اضطراب أمني يرفع من نفوذ العسكريين في نهاية المطاف، ويمثل ضغطاً هائلاً على الرئيس التركي وحكومته، يبعدهما جزئياً أو كلياً عن حكم تركيا.. وأن الطرفين المتناقضين (بي كا كا وداعش) ربما ضالعين بشكل أو بآخر في تلك المؤامرة.

 

 

 

 

 

الوضع معقد بكل تأكيد، لاسيما أن حكومة داود أوغلو، ورئيس الجمهورية التركي، بديا واعيين لكلا الاحتمالين، ولقد حاولا أن يقلبا الطاولة في وجه الطامحين للإضرار بهما؛ فالتصدي المتزامن للمنظمتين معاً يرنو إلى إجهاض فكرة الدولة الكردية الكبرى، والتي يراد أن يقام بعضها على الحدود التركية السورية، وتقليم أظافر داعش، ولا يسمح لأحدهما بالتغول على حساب الآخر، كما أنه يدعم حلفاء تركيا في سوريا، وكذلك يمثل ضغطاً معاكساً على حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يحاول الرئيس وحكومته حشره في زاوية التبرؤ من إرهاب حزب العمال الكردستاني أو الملاحقة القانونية للنظر في مدى قانونية الحزب، وهو ما يؤيده الحزب القومي أيضاً، وبالتالي يعكس السهم في اتجاه مطلقيه، وهو ما يكافح نظام أردوغان الديموقراطي من أجل تحقيقه والإفادة من ظرفه بدلاً من الاكتفاء بتلقي ضرباته أو تجنبها فقط، وهو ما بدا أنه حقق فيه بعض النجاحات المحدودة حتى الآن إلى حد جعل من مناوئيه يتحدثون عن "فوضى أردوغان الخلاقة للبقاء في الحكم"، مثلما أوهم الباحث التركي (المعارض)، الأكاديمي طارهان أردم، رئيس مجلس إدارة مركز كوندا للدراسات والاستشارات!

 

 

 

تلك حرب خيضت على غير موعد، والتكهن بنتائجها صعب، لاسيما أن المدى الزمني لها ليس معروفاً ولا أهدافها كذلك.. لكن على كل حالٍ، يقصر النظر كثيراً إن حاد عن المساحة الواسعة للسياسات الأمريكية والإيرانية والأوروبية في المنطقة، وركز ملياً في زاويتي تنظيم الدولة والعمال الكردستاني فقط، لأن السر الحقيقي للأزمة ليس في أيديهما.