الانتخابات التركية وتداعياتها على الأزمة السورية
22 محرم 1437
أحمد محمود عجاج

أبرزت الانتخابات التركية الأخيرة، والفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية، مدى الاختلال الذي سيطرأ بالذات على الساحة السورية.

 

 

 

 

ومما لا شك فيه أن أميركا وروسيا وطهران تدرك أبعاد هذا التحول، لكنها تجد نفسها في مأزق، لأنها لم تستعِّد له أساسا، وكان رهانها على حكومة ائتلافية تركية ضعيفة. تجد هذه الدول نفسها الآن في مواجهة رجل قوي يقود دولة نامية قوية، لها تاريخ مشرق، وباع طويل في التعامل مع التعقيدات الدولية، ودولة لها مصالح كبرى في منطقة يتنازع عليها الكبار.

 

 

 

 

ثمة مؤشرات ستساهم في صناعة سوريا المستقبل أهمها شخصية إردوغان، وإسلامية الطرح التركي، والمشكلة الكردية، والضعف الأميركي وضيق الخيارات الروسية.

 

 

 

 

 

 

إن شخصية إردوغان كانت هي المطروحة على التصويت، وهي التي صوت لها الناخبون الأتراك، وهي التي خاطرت سياسيا في إعادة الانتخابات، وتحدت كل استطلاعات الرأي، وفازت في النهاية فوزا كاسحا. ففي تركيا يوجد الآن رئيس قوي تجاوزت قوته أبا الأتراك «أتاتورك»، رئيس يواجه على الأرض السورية الروس والأميركان وإيران. فما يريده بوتين في روسيا لا يتطابق تماما مع ما يريده إردوغان، ولا مع ما يريده أوباما أو روحاني؛ بوتين يريد إنشاء دولة علمانية تلعب فيها الأقليات دورا رائدا، وتكون مربوطة به، وإيران لا تمانع، بينما أميركا لا ترى ضيرا طالما أن الروس هم الذين ستحترق أيديهم، وشريطة أن تكون لأميركا يد طولى في تشكيل سوريا وقولبتها.

 

 

 

 

 

 

لسوء حظ الرئيس الروسي بوتين، ومعه الأميركي أوباما، أن إردوغان عاد بقوة للساحة السياسية، وعاد وبيده ورقة يجمع عليها شعبه وهي الورقة الكردية التي هي في صميم الأزمة السورية. بعبارة أخرى، تركيا لن تقبل أبدا بأن ترسم دول من خارج المنطقة مستقبل دولة جارة لسوريا، وأن ترسمها بطريقة ضارة بمصلحة دولة تركيا. هنا يلعب التاريخ دوره لأن إردوغان ليس شخصية عادية، بل هو معبأ بالتاريخ (العثماني)، ويدرك أن نمو بلاده وازدهار اقتصادها وأمنها مرتبط بما يجري في دول الجوار القريب؛ بمعنى أنه يريد حزاما آمنا لا يحق لأحد أن يتدخل به من دون مراعاة مصلحة تركيا؛ فكما أن روسيا لها نظرية «الجوار القريب»، وأميركا نظرية «الحديقة الخلفية» فهو لديه أيضًا نظرية «الجوار الإسلامي» التي تمنع على الآخرين التدخل في دول مجاورة ترتبط به ثقافيا ودينيا، وتاريخيا.

 

 

 

 

 

 

إن نظرية الجوار الإسلامي مع عودة إردوغان للسلطة ستأخذ مداها الطبيعي، وستكون البوصلة التي ستحدد السياسة الخارجية التركية. وقد رسم إردوغان ملامحها بدبلوماسية في الفترات السابقة على فوز حزبه، وهو أنه إذا ما أراد الأكراد التمدد إلى غرب الفرات، فإن تركيا ستتصرف وفق مصالحها ولن تراعي أحدا. وبما أن الجغرافيا هي المحدد لقوة السياسة، فإن سوريا ملاصقة لتركيا، وبوسع تركيا أن تزعج روسيا وبأكثر بكثير مما أزعجت باكستان الولايات المتحدة عبر حركة طالبان. فالجميع يعرف أن تركيا هي بمثابة القلب للحراك الثوري في سوريا وبالتحديد الإسلامي، وأن ما نسجته من علاقات في السنوات الأربع الماضية، كفيل بأن يضمن لها موقعا متميزا في المعادلة السورية. وقد تبين بالفعل للقيادة الروسية أن السيطرة على الجو لا تعني السيطرة على الأرض، وأنه ببضعة صواريخ متطورة يمكن للمعارضة السورية أن تفشل المخطط الروسي بأكمله.

 

 

 

 

 

يطال القلق إدارة أوباما التي راهنت هي الأخرى على تركيا مختلفة؛ فأوباما مصر على استحضار إيران كطرف فاعل في المعادلة العربية بعد الاتفاق النووي الأخير، وتحييد الدور التركي قدر ما أمكن، رغم ما تجره السياسة الأميركية من تداعيات سلبية على الأمن التركي. لكن أوباما سيشعر لأول مرة أنه بمواجهة واقع مختلف، وأن تركيا ما بعد الانتخابات غير تركيا ما قبلها؛ فإردوغان يرى في السياسة الأميركية ضعفا واضحا، وتراخيا في دعم حلفائه، ويعتبر الرئيس الأميركي غير عابئ بما يجري، وعليه فإن إردوغان سيعتمد سياسة لا تراعي الطرف الأميركي عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي التركي. وتعريف الأمن القومي مطاط جدا، وهو ما نلمسه في التعريف الروسي، والأميركي، والإيراني؛ وعليه فإن إردوغان لن يسمح بأن تُقولب وتُصاغ سوريا إلا بما يتناسب مع أمن بلاده ومصالحها. ولعل المشكلة الأكبر التي ستواجهها أميركا هي الكرد الذين تستخدمهم في مواجهة تنظيم داعش، والذين يراهم إردوغان ومعه كثير من الشعب التركي أداة بيد أميركا، وخنجرًا سيمتد إلى قلب الوطن التركي. وما تصريحات إردوغان بهذا الخصوص إلا دليل على أنه سيصل إلى تصادم مع أميركا، وأن أميركا في ظل أوباما لن ترى مصلحة بإغضاب إردوغان تركيا. وبالطبع سيخسر الأكراد!

 

 

 

 

 

 

بيد إردوغان ورقتا الداخل والإقليم وهما يؤهلانه للعب دور صانع الحل السوري؛ ففي الداخل غَيَّر إردوغان تركيا تماما، فهي الآن لا تشبه تركيا العلمانية الراديكالية أبدا، بل هي تشبه أكثر ما يمكن تسميته الليبرالية الإسلامية، التي تركز على التوسع الثقافي والفكري والتجاري، دونما اختزال للعامل الأمني. وقد برهنت الانتخابات الأخيرة أن الداخل التركي بأكثريته مع إردوغان، وأن الذين محضوه الأغلبية هم الكرد المحافظون الذين وجدوا أن طروحاته لا تختلف عن عقائدهم، ووجدوا أنهم في مأمن في ظله.

 

 

 

 

 

كذلك على المستوى الإقليمي، فإن خلفية إردوغان الدينية، وتراث العثمانية، وانخراطه في شؤون المنطقة، سمحا له أن يكون مؤثرا في الإقليم المجاور، وهو ما تبدى في تأييد شعبي ليس بالقليل في العالم العربي الذي يشعر بأنه محاصر ومستباح. وبناء على هذا فتركيا تدرك أنها ستجد مناصرة من السعودية التي تعتبر أهم دولة عربية، بعدما خرجت مصر من المعادلة واختارت الدور الحيادي في الأزمة السورية؛ فكلا الدولتين متفقتان على أن الأسد ليس له مكان في سوريا المستقبل. كما أن إردوغان سيستخدم بذكاء أزمة اللاجئين وثقلها على الاتحاد الأوروبي، الذي سيجد نفسه مضطرا للمساومة والقبول بالطروحات التركية.

 

 

 

 

 

لقد أعطت الانتخابات التركية إردوغان تفويضا جديدا، ووفرت له كذلك المعطيات الداخلية الزخم الشعبي الداعم له، ومنحه المعطى الإقليمي القدرة على المناورة والتحرك، وبهذا فإنه بشخصيته القوية وبالرؤية والخلفية التي يحملها، سيكون بالفعل اللاعب الأقوى في الأزمة السورية، ستكون تركيا في عهد إردوغان الدولة الأولى التي ستقول علنا: لا للأسد؛ وستكون الدولة الأولى التي ستصر على حماية أمنها من الجوار السوري، ولو أدى الأمر إلى استخدام القوة.
مع عودة إردوغان قويًا إلى السلطة توقعوا ما لم يكن متوقعًا!.

 

 

 

المصدر/ الشرق الأوسط