الحجر على المفتي الماجن
3 صفر 1437
صلاح فتحي هلَل

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلِّ اللهم وسلِّم وبارِك عليه صلى الله عليه وسلم، وارْضَ اللهمَّ عن آلِه وصَحْبِه الغُرِّ الميامين رضوان الله عليهم، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

 

فقد جرى مداد أهل العلم في كتبهم العوالي، بضرورة الحجر على المفتي الماجن، ووافقهم على ذلك أبو حنيفة المعروف بعدم الحجر على الأحرار البالغين، غير أنه استثنى المفتي الماجن من مذهبه هذا، فطالب بالحجر عليه، مع المُكاري المفلس، والطبيب الجاهل؛ دفعاً للضرر العام(1). "فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم، والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم، والمُكَاري المفلس يتلف أموالهم، فيُمنعون من ذلك دفعاً للضرر"(2).

 

و"الحَجْر (بفتح فسكون): المنع. إلا أن الفقهاء يريدون به المنع من التصرفات المالية كالحجر على السفيه، أو القولية كالحجر على المفتي الماجن، أو العملية كالحجر على الطبيب الجاهل. والمراد من الحجر تعويق التصرف، لا تعويق الشخص الذي يقصد حبسه"(3).

 

يقول الكاساني: "وليس المراد منه حقيقة الحجر، وهو المعنى الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف، ألا ترى أن المفتي لو أفتى بعد الحجر، وأصاب في الفتوى جاز، ولو أفتى قبل الحجر وأخطأ لا يجوز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية بعد الحجر نفذ بيعه، فدل أنه(4) ما أراد به الحجر حقيقة، وإنما أراد به المنعي الحسي أي: يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حسّاً؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمُكَاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا من باب الحجر"(5).

 

والمقصود منعهم من مزاولة أعمالهم هذه دفعاً لضررهم على العامة، وحتى لا يتوّهم العامة أن ما يقولونه أو يفعلونه من سفهٍ ومجون وعدم مبالاة هو حكم الله عز وجل؛ لأن المفتي في واقع الأمر هو كالترجمان عن الله عز وجل، كما يرى القرافي(6)، أو كالموقِّع عن الله عز وجل، كما يرى ابن القيم(7). وسبقه ابن الصلاح فقال: "ولذلك قيل في الفُتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى"(8). ثم ساق ابن الصلاح بإسناده عن محمد بن المنكدر قال: "إن العالِم بين الله وبين خلقه؛ فلينظر كيف يدخل بينهم".

 

فالمفتي هو الواسطة المبيِّنة عن الله عز وجل، الموصلة لمراد الحق إلى الخلق؛ ذلك أن الله عز وجل قد أرسل رسله، وأنزله كتبه، لهداية الخلق، وبيان ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وما يصلح أمورهم، ويقيم حياتهم على الصراط السوي، وصار الأمر بعد ذلك محصوراً في جهة الشرع، ومعرفة مراده، وما ترمي إليه نصوصه الشريفة، وصارت هذه المعرفة مهمة جليلة لأهل العلم والفضل الذين يستنبطون الأحكام، ويعرفون الحلال والحرام، بما فتح الله عليهم، ورزقهم من العلم ما جعلهم أئمة الناس، ثم أمر سبحانه عباده بالرجوع إلى هؤلاء العلماء العارفين عند الاختلاف، وسؤالهم عن الحلال والحرام الذي يعرفونه في الشرع، ويحفظونه من نصوصه، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]. ففرض سبحانه وتعالى الرجوع إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع، يعني الرجوع إلى كتابه وإلى سُنَّته. وطاعة أُولِي الأمر تعني طاعة أهل العلم والدراية والمعرفة، وقد اختلفت عبارات المفسرين في التعبير عن المراد بأولي الأمر في الآية الكريمة فقيل: "هم أهل الحل والعقد من الأمراء، وقيل: هم العلماء، وقيل: هم أهل الفقه، وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما". وأيّاً كانت العبارة المستخدمة في التعبير عن المعنى فهو واحدٌ إن شاء الله، يدل على وجود العلم والدراية والمعرفة بالشريعة؛ وهذا ظاهرٌ في الصحابة وعلى رأسهم الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ظاهرٌ في العلماء وأهل الفقه، وكذلك كان الأمراء قديماً أيضاً، فاتفق المعنى بين أهل العلم، رغم اختلاف الإشارة إليه بهذه العبارة أو تلك(9).

 

وقد قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، وقال: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83].

 

فالعلماء هم المبلِّغون عن الله عز وجل، الموقِّعون عنه، المترجمون، الذين يبينون للناس ما نُزِّل إليهم فلزم أن يكون المفتي مأموناً على هذا النصب، صادقاً في أقواله وأفعاله(10). وقال ابن الصلاح: "أما شروطه وصفته فهو: أن يكون مُكَلَّفاً مسلماً ثقة، مأموناً، مُنَزَّهاً من أسباب الفسق، ومُسقطات المروءة؛ لأن مَن لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفِكر، صحيح التصرُّف والاستنباط مُتَيَقِّظاً"(11). ويقول ابن القيم: "ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما بَلَّغ، صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله ولا يُجهل قدره وهو من أهل المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمَن أُقيم في هذا المنصب أن يعد له عُدَّته، وأن يتأهَّب له أُهْبته، وأن يعلم قدْر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء:176]. وليعلم المفتي عمَّن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً، وموقوف بين يدي الله(12).

 

ولهذه الدرجة العليَّة لهذا المنصب الخطير، لم يُتْرك سُدًى، خالياً من الشروط اللازمة لمَن يتولاه، بحيث لا يتحقق المراد من المنصب بفقْدِها، ومدار هذه الشروط على تحقيق المطلوب من المنصب في جهاتٍ؛ أذكر منها:

أولها: أن يكون المفتي عالماً: فأهل الذكر والعلم والدراية فقط هم الأهل لسؤالهم، واللجوء إليهم لمعرفة أحكام الشرع، ويُحْجر على كل جاهلٍ يتسوّر سور الفتوى بغير أهلية.

 

وثانيها: أن يقوم بالبلاغ، فالأصل أنه لا يجوز لأحدٍ علم شيئاً من الحق، أن يكتمه عن الخلق، وقد قال الله عز وجل: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].

 

وثالثها: أن يُبَلِّغ الشرع كما وصله، لا كما يوافق هواه: وهذا ما أردنا الحديث حوله في هذا المقام، وهو ما ندندن عليه، حيث عمَّت البلوى بهؤلاء المحرِّفين للمعاني، الملحدين في مراد النصوص، الجارفين لها خارج سياقها، مما يستلزم الحجر عليهم، والأخذ على أيديهم، لتطاير شررهم، وعموم ضررهم، على البلاد والعباد، وأضحى الواحد منهم الآن يفتي بما يوافق هواه، يجمع لذلك الروايات الشاذة، ويحشد الأقوال المصادمة لمبادئ الشريعة، ولا يرعوي عن إيراد الأباطيل والآراء الفاسدة، رغبة منه في نصرة مذهبه وما ينوي ترويجه، ومكايدة منه لأهل الحق والعدل والخير، الذين يقفون له بالمرصاد.

 

ولهذا نبَّه أهلُ العلم على عدم جواز الإفتاء بالتشهي، أو التحيُّز إلى فئةٍ دون أخرى، إذ ليس هذا من شأن المفتي ولا من خصائصه، وإنما هو مُبَلِّغ عن الله عز وجل، يبلِّغ أحكامه لعباده، فمن زاد أو استزاد فقد أساءن وتورط في الكذب على الشريعة، يقول ابن القيم: "فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتحيز وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه، وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به ويحكم به، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر والله المستعان"(13).

 

وبعضهم يتخفَّى في بيان مقصده، فيورد النصوص إيراد الباحث المتمكن، والمجتهد المطلق، غير أنه يُخرجها من سياقها، ويحرفها عن مسارها، فترى النص بين يديه وقد دلَّ على عكس المراد منه، لكن هكذا يفعل كاهن الإفتاء، حين ينزع الله منه أمانته. وما أجمل ما سطره يراع ابن القيم حين قال: "إذا سُئِل(14) عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة؛ لموافقة نحلته وهواه، ومَن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديماً وحديثاً". إلى أن قال: "وقال بعض أهل العلم: كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مَن يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة، والمجازات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]، قال الحسن: "هي والله لكل واصف كذباً إلى يوم القيامة. وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]"، قال ابن عُيَيْنَة: "هي لكل مفترٍ مِن هذه الأمة إلى يوم القيامة".

 

قال: "ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي وجعلوها عياراً على كلام الله ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة، وأي بناء للإسلام هدموا بها، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو، وقال ما الذي حَرَّم عليَّ التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد... وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القَدَرية في نصوص القدَر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم، وكذلك القرامطة، والباطنية طردت الباب وطمت الوادي على القرى وتأولت الدين كله، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دَلَّ عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دُخِل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟".

 

قال: "والمتأولون أصناف عديدة، بحسب الباعث لهم على التأويل، وبحسب تصوُّر أفهامهم ووفورها، وأعظمهم توغُّلاً في التأويل الباطل مَن فسد قصده وفهمه، فكلما ساء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد انحرافاً، فمنهم من يكون تأويله لنوع هوًى من غير شبهة؛ بل يكون على بصيرة من الحق، ومنهم مَن يكون تأويله لنوع شبهة عرضت له أخفت عليه الحق، ومنهم من يجتمع له الأمران الهوى في القصد والشبهة في العلم". إلى أن قال ابن القيم: "وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية مِن باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإنّ محنته إما من المتأوِّلين، وإما أن يُسلَّط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل". قال: "ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديماً وحديثاً بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار والله المستعان"(15).

 

على أنّ هذا السلوك التأويلي لم يكن عَرَضاً في التاريخ ثم انتهى، فثمة في عصرنا مِن ذيول هذه الفرق الهالكة مَن توسع فيه أكثر من أسلافه، فترى الواحد منهم يتأول الآية أو الحديث بعكس مرادها ويحشد لإثبات الضد ما وسعه من أضاليل، فإذا بالإسلام وقد تبدلت صورته وتغيرت معالمه، فلم يبق منه عند هذا المفتي سوى اسمه، فالربا فائدة مباحة والفجور والفاحشة فن محترم، والخمور مشروبات روحية، والقتل والتشريد والدمار دفاعٌ عن الوطن ولكل كارثة أدلتها التي ينفق عليها "مؤجِّر المفتين بعدما صار الواحد منهم مُستَأْجَراً بالقطعة لكل صاحب مال أو سلطة، وفَقَدَ الناس بسببهم الثقة في كثير من أهل الفضل والعلم والمروءة. فهؤلاء المفتين المنكوسين المنحوسين لا بد من الحجر عليهم، والضرب على أيديهم، صيانة للشريعة، وحفظاً لدين الناس ودنياهم، وإذا كان الله عز وجل قد وجَّه عباده بحفظ أموالهم فقال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5]، فكيف بالدين الذي هو عماد الدنيا والآخرة؟.

 

والواجب على ولاة الأمور وعموم الناس التصدِّي لهذا المفتي الماجن. فأما ولاة الأمور: فيجب عليهم الحجر على هذا المفتي الماجن. يقول الخطيب البغدادي: "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمَن كان يصلح للفتوى أقَرَّه عليها ومَن لم يكن مِن أهلها منعه منها. وتقدّم إليه بأن لا يتعرَّض لها، وأوعده بالعقوبة إنْ لم ينته عنها"(16). وأما عموم الناس: فلا يسعهم السماع لهذا الماجن، ولا اللجوء إليه في أمورهم وشؤونهم. وإذا كان المفتي الماجن لم يتق الله فيما قال وفعل؛ فإنّه ليس لأحدٍ أن يقلده في الباطل، ولا أن يأخذ زيفه وباطله. يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء"(17). فكيف بأولئك الفاجرين المتهتكين، المتلونين، الملحدين في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم السالخين لها عن سياقها، المخرجين لها عن إطارها إلى ضده؟

 

يقول ابن القيم: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره مِن قبوله وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "استفتِ نفسك وإنْ أفتاك الناس وأفتوك، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه قال: "ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكه فيه أو لجهله به أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة؛ أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها"(18). إذ الغرض من الاستفتاء الوقوف على حكم الشرع، ومعرفة مراده، للتعبُّد بطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمتى لم يحصل الوقوف على حكم الشرع لم يكن للاستفتاء معنًى، ولم يقع الغرض منه، سواء كان ذلك للشك في شخص المفتي وطيشه وسفهه، أو معرفته بمحاباة فريق على حساب فريق من المسلمين، أو تزلُّفه من بعض الأمراء والحكام، أو غير ذلك من الأسباب الجارحة في شخص المفتي أو فتواه.

 

وليحذر المستفتي هؤلاء الذين يتحدثون في كل شيء، ويُفتون ولا يُستفتون؛ أي يُبادرون بالفتوى قبل أن تُطلب منهم، أولئك المتطلعين للمنصب أو الجاه، الحريصين على الشهرة ولو بالباطل. وما أروع أسلافنا حين كانوا أهلاً للفتوى فتورَّعوا عنها. فقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "مَن عَلِم منكم عِلْماً فليقُل به، ومَن لم يعلم فليقل لما لا يعلم: الله أعلم، فإنّ العالِم إذا سُشِل عمَّا لا يَعْلَم قال: الله أعلم وقد قال الله لرسوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]"(19). وصَحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ "أن رجلاً سألَه عن مَسألة؟ فقال: لا عِلْمَ لي بها، فلما أدْبَر الرجل قال ابن عمر: نِعْم ما قال ابن عمر؛ سُئِل عمَّا لا يَعْلَم فقال: لا عِلْم لي به"_20). وقال الفقيه الأجَل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق: "لأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعلم حق الله عليه خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم"(21).

 

وعن ابن سيرين قال: "ما أبالي سُئِلت عما أعلم أو ما لا أعلم؛ لأني إذا سُئلت عما أعلم قلتُ: ما أعلم، وإذا سُئلت عما لا أعلم قلت: لا أعلم"(22). ويقول الإمام الشافعي: "ما رأيتُ أحداً من الناس فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عُيَيْنة، وما رأيتُ أحداً أكَفَّ عن الفُتْيا منه، ما رأيتُ أحداً أحسن لتفسير الحديث منه"(23). ولهذا ورد عن أكثر من إمامٍ قال: لا أدري نصف العلم. فالله الله في الإسلام، لا تهدموه باتباع هؤلاء المفتين المارقين، الضالين المضلين. وقى الله ديار المسلمين شرورهم، وأعاذها من ضلالتهم، والله المستعان.

 

_______________________

(1)    ينظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم الحنفي (75)، الحاشية، لابن عابدين (6/147، 401)، فتح القدير، لابن الهمام (9/254)، التقرير والتحبير (2/202).
(2)    تضمين من المبسوط، للسرخسي (24/157).
(3)    تضمين من الموسوعة الفقهية الكويتية (16/283).
(4)    يعني: الإمام أبا حنيفة.
(5)    بدائع الصنائع، للكاساني (7/169).
(6)    الذخيرة، للقرافي (10/121).
(7)    إعلام الموقعين (1/10).
(8)    أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (1/7).
(9)    انظر: التفسير، لعبد الرزاق الصنعاني (1/464، 465)، ولابن جرير (8/491، 497-502).
(10)    يقول ابن حمدان في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي (ص4): "المفتي هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله، وقيل: هو المخبر عن الله بحكمه، وقيل: هو المتمكِّن من معرفة أحكام الوقائع شرعاً بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه" اهـ.
(11)    أدب المفتي والمستفتي (1/21).
(12)    إعلام الموقعين (1/10).
(13)    إعلام الموقعين (4/211).
(14)    يعني: المفتي.
(15)    إعلام الموقعين (4/245-254) باختصار.
(16)    الفقيه والمتفقه، للخطيب (2/324).
(17)    الفتاوى الكبرى (4/465).
(18)    إعلام الموقعين (4/254).
(19)    رواه الدارمي (173/  وهذا لفظه)، والبخاري (4774)، ومسلم (2798).
(20)    الطبقات، لابن سعد (4/144)، السنن، للدارمي (179)، صفة الصفوة، لابن الجوزي (1/566).
(21)    رواه الدارمي (رقم 111) بإسناد صحيح، وعَلَّقَه يَعْلَى في طبقات الحنابلة (1/169-170، ت: العثيمين)، والمِزِّي في تهذيب الكمال (23/433).
(22)    رواه الدارمي في السنن (183) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (53/200).
(23)    تَقْدِمَة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (ص32-33).