القرآن شفاء لما في الصدور
3 ربيع الأول 1437
محمد بن عبد الرحمن السعدان

إن الناظر لأحوال كثير من البشر في هذا العصر المتطور السريع وفي خضم مسؤوليات هذه الحياة المتكاثرة والرُّكام الهائل من المشاغل والهموم والأفكار والتدافع المتزايد بين الناس ليلحظ بوضوح أن كثيراً من النفوس أصبحت مصابة بالقلق والتوتر، وتعاني من المشاكل والضيق في حياتها، وأن كثيراً من الخلق يحتاجون إلى ما يُسكنهم ويُطمئنهم، ويتوقون إلى تحصيل ما يُثبِّت قلوبهم، وإلى النهل مما يُطفئ قلقهم، ويُهدئ به من روعهم، ويُذهب عنهم ما يؤرقهم، وإلى ما تنشرح به الصدور، ويساعدهم على الصبر والثبات مع مصائب الدنيا ورزاياها التي لا تنتهي، ونسوا أو أنساهم الشيطان أن ذلك كله موجود في مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقُده، والمنهاج الذي لا يَضِل ناهجه، والعزُّ الذي لا يُهزم أنصاره.

 

إن القرآن بمثابة الروح للجسد والنور للظلام، فمن لم يقرأ القرآن ولم يعمل به فما هو بحي وإن تكلّم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:122].

 

نعم أيها الإخوة القراء، إن القرآن روضة المتقين، وسلوة الطائعين، ودليل السالكين، ولذة قلوب المؤمنين، إنه كلام رب العالمين، المنزّل على سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، هدى للمتقين، ونوراً للمؤمنين. إن من يريد أن يكون له نور يمشي به، ويريد انشراح صدره، وجلاء همه وغمه، وراحة قلبه وطمأنينة نفسه، عليه أن يقرأ القرآن بتفكر وتمعن، وأن يقرأ كتاب ربه وهو في حال تدل على خشوعه وتأثره وأن يتدبر معانيه وآياته، لا أن يقرأه وكأنه يقرأ صحيفة أو مجلة، يقول الله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. فإذا كانت هذه حال الجبال والصخور، تخشع وتتصدع من القرآن فكيف بحال قلوبنا مع كتاب ربنا ألا يجب أن تكون أشد خشية وخوفاً؟!

 

فعلى المسلم أن يقرأ القرآن ويستحضر أن القرآن يخاطبه، وأنه المقصود بالخطاب، ويقرأ بتلاوة مجوَّدة، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم – رحمهما الله – وبوّب له بعض شُرَّاح صحيح مسلم: "باب: ترتيل القراءة واجتناب الهذيان" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قال له: "إني أقرأ المُفصَّل في ركعة واحدة، فقال عبد الله: هذا كهَذِّ الشِّعْر؟! إنَّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فَرَسَخ فيه نفع". وذكر شعبة رحمه الله أن أبا جمرة قال لابن عباس: "إني رجلٌ سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أحبُّ إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بد فاقرأ قراءة تُسمعها أذنيك ويعيها قلبك". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث". وذكر ابن رجب رحمه الله أن هذا النهي في غير الأوقات الفاضلة كرمضان.

 

فاحرص – يا عبد الله – على تدبُّر القرآن، فإن الغاية من إنزال القرآن هو تدبره والعمل به، قال الحسن البصري رحمه الله: "نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً"، ثم إياك إياك وهجران القرآن والإعراض عن قراءته وتدبره والعمل به فإن الصدود عن القرآن يصيب بالوحشة والضيق والضنك، ويجلب كل تعاسة ومرض وكآبة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]. يقول ابن القيم: "هجران القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجرُ العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع: هجر تدبره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منا، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، وإن كان بعض الهجر أهو من بعض. اللهم اجعلنا من أهل القرآن وخاصته وممن يتدبر آياته ويعمل به.