أمسِكْ عليك لسانَك
15 ربيع الثاني 1437
عبده أحمد الأقرع

الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم إخوة متحابين متراحمين، على الخير متعاونين، وللفحش والزور مجتنبين، وعن أعراض إخوانهم ذابين ومدافعين. وأصلي وأسلم على خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

 

فمن أهم ما يميز المجتمع الإسلامي: أنه مجتمع مودة وتراحم، وتكاتف وتلاحم، ومحبة وتلاؤم، ولكن فيه من لا تحجزه مروءة ولا يردعه دين أو أدب، جرَّد لسانه مقراضاً للأعراض بكلمات تنضح فحشاً، وألفاظٍ تنهش نهشاً، يسرف في التجني على عباد الله بالسخرية واللمز، فهذا طويل وذاك قصير وهذا أحمق وذاك جهول، وكأنه قد وُكل إليه تجريح عباد الله، ويزداد الأمر وتعظُم البلية حين ترى عليه علامات اللوم وملامح الاحتشام، سيما الوجاهة، وهيئات العلماء، ومع هذا المظهر الخداع، يصم بالخوض في الباطل أذني جليسه، لا يدع لأصحاب فضل فضلاً.. يحمل عليهم الحملات الشعواء أحياءً وأمواتاً، تُرى ما هذا الداء إنه "داءُ الغيبة"، قَلَّ أن تسلم منه المجالس، ويندر أن ينفك منه مجتمع من المجتمعات، إلا من رحم ربي.

 

فالغيبة هي: الداء العضال والسم الذي عند بعض الألسن أحلى من الزلال، وقد جاء الإسلام بتحريم الغيبة تحريماً قاطعاً، وقد جعلها من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم عديلة قتل النفس، وغصب المال فقال صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" (مسلم:2564).

 

وأعظم من ذلك وأجلُّ كلام ربنا عز وجل: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].

 

فتأمل أخي المسلم رحمك الله هذا الأسلوب البليغ، في النهي المقرون بالمثال الذي يزيد الأمر شدة وتغليظاً، والعمل تقبيحاً وتشنيعاً، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].

 

فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذر جبلة وطبعاً، بل فكيف إذا كان ميتاً وجيفة؟ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه مر على بغلٍ ميت فقال لبعض أصحابه: "لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه، خيرٌ له من أن يأكل لحم رجل مسلم" (صحيح الترغيب:838).

 

فسبحان الله، ما أعظم خطر الغيبة وما أشنع جرمها، ويا سبحان الله، ما أكثر تساهل الناس بها اليوم، حتى لكأنها مائدة مجالسهم، والغيبة ذات أسماء ثلاثة، كلها في كتاب الله عز وجل (الغيبة والإفك والبهتان)، فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان.

 

وللمغتابين نسوقُ هذا الوعيد، قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه في بيته" (رواه أحمد:4/20).

 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عُرج بي، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" (سنن أبي داود: 4878).
معنى: يخمشون: يخدشون ويجرحون.

 

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيدي، ورجلٌ عن يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهما لعيذبان، وما يعذبان في كبير، وبرى، فأيكم يأتيني بجريدة؟" فاستبقنا، فسبقته فأتيته بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، وقال: "إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في الغيبة، والبول" (صحيح الترغيب:2841).

 

وقال قتادة: ذُكر لنا أن عذاب القبر من ثلاث أثلاث: ثُلُث من الغيبة، وثُلُث من البول، وثلث من النميمة، وقال عمر رضي الله عنه: "عليكم بذكر الله، فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس، فإنه داء".

 

ويقول بعض السلف: "الغيبة أشد من الزنى، قيل: وكيف؟ قال: الرجل يزني ثم يتوب، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه" (كتاب الصمت: ص164).
واغتاب رجلٌ آخرَ عند بعض السلف، فنهره، فقال: "يا هذا، إياك ولوغ الكلام" (الصمت:ص299).

 

ويقول الحسن رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره، ويترك عيوب نفسه، فاعلم أنه قد مُكر به" (الصمت:198).

 

ويقول بعض السلف: "أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم والصلاة ولكن في الكفِّ عن أعراض الناس.

 

ويُروى أن معروفاً الكرخي رحمه الله إذا اغتاب عنده أحدٌ قال: "يا هذا، اذكر الكفن والقطن والحنوط إذا وضعن عليك" (سير أعلام النبلاء:9/341).

 

ويا سلوى لمن اغتابهم الناس لاستفادتهم من حسناتهم، يُروى أنه لما بلغ الحسن البصري أن رجلاً اغتابه، أرسل إليه طبقاً من رطب، وقال له: "بلغني أنك أهديت إلي حسناتك – أي: بغيبتك لي – فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدرُ على مكافأتك على التمام" (إحياء علوم الدين:3/164).

 

وقيل لبعض الصالحين: لقد وقع فيك فلانٌ حتى أشفقنا عليك ورحمناك، قال: عليه فأشفقوا وإياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي.

 

أسباب وبواعث الغيبة:

وإذا بحثنا عن الأسباب والبواعث لهذا المرض الخطير، وجدناها لا تعدو: ذعف الإيمان، وقلة الوازع، وعدم الخوف من الله، فالذي يغتاب الناس يقول بلسان حاله: "أنا الكامل، والناس مخطئون، وأنا المحق، والناس مبطلون".

 

واعلم أخي الحبيب أن المستمع للغيبة شريك للمغتاب، فقد قيل: إن التصديق بالغيبة غيبة والساكت شريك للمغتاب، يقول ابن المبارك – رحمه الله -: "فِرَّ من المغتاب فرارَك من الأسد".

 

وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب أحداً عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام من المجلس.

 

فيا ترى أين هو المؤمن القوي الذي يأبى أن يُغتاب أحدٌ في مجلسه؟ أين المؤمن الذي يأبى أن تسمع أذناه عيب أخيه المسلم؟
أين المؤمن الذي يريد أن يرد الله عن وجهه النار يوم القيامة؟

 

عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" (صحيح الترغيب:2848). وحسب المغتاب أنه بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى ومقته، وأن حسناته تُنقل إلى من اغتابه، وإن لم يكن له حسناتٌ نقل إليه من سيئات خصمه، فمن استحضر ذلك لم يُطلق لسانه بالغيبة.

 

فيا أخي الحبيب: أمسِكْ عليك لسانَك، وليسعك بيتك، وابْكِ على خطيئتك. (صحيح الترغيب:2854). وسارع في رد المظالم.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (مسلم:2582).

 

وخذ بلسانك وقل: "يا لسان: قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم".