كي لا ينقطع البر في المجتمع المسلم
18 جمادى الأول 1437
د. عامر الهوشان

لا شك أن ظاهرة تراجع أعمال البر بين الناس في المجتمع المسلم مقارنة بما كان الحال في عهد قريب لا تخطؤها عين المدقق , كما أن انخفاض أعداد فاعلي الخير وباذلي الإحسان المادي والمعنوي لا تنكره ملاحظة المتابع , فالحياة اليومية لمدة يسيرة في أي مجمع مسلم كفيلة بالخروج بعشرات الأمثلة عن تلك الظاهرة .

 

 

 

والحقيقة أن هذه الظاهرة تزداد وضوحا كلما قارن القارئ الكريم - فيما يتعلق بشيوع أعمال البر وانتشار الإحسان - بين واقع الأمة اليوم , وبين حقائق ما كان عليه لا أقول السلف الصالح في العهود الخيرية فحسب , بل ما كان عليه حال المسلمين منذ عقود خلت .

 

 

 

و لا أعتقد أبدا أن السبب في ذلك يعود إلى قلة محبي أعمال البر وباذلي الخير في المجتمع الإسلامي , ولا إلى ندرة المحسنين أو غياب المنفقين أو فقدان المتمسكين بقيم ومبادئ وأخلاق دين الله الخاتم.......فهؤلاء وإن لم تكن أعدادهم كما كانت في عهود السلف الصالح , إلا أنهم ما زالوا كثر في أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولله الحمد , ولن تفتقدهم الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , ففي الحديث الصحيح عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- : ( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) صحيح مسلم برقم/5059

 

 

 

ويظهر لي أن السبب الأهم في هذا التراجع الملحوظ في تبادل أعمال البر في المجتمع المسلم , إنما يعود إلى عدم مقابلة إحسان فاعل الخير وباذل البر بالإحسان كما أمر الله تعالى في كتابه الكريم : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } الرحمن/60 , بل و إلى الإساءة إلى المحسن في بعض الأحيان بقصد أو بغير قصد .

 

 

 

نعم ...كثيرا ما نسمع من أحدهم أنه أقرض فلانا مبلغا من المال إلى أجل معلوم , وذلك طمعا في الجزاء الذي وعد الله به المقرضين بقوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة/245 , رغم قدرته على تشغيل المبلغ بما يعود عليه بنفع مادي مرجو , فإذا ما جاء الأجل المحدد واستحق الأداء , ماطل المقترض في الوفاء , وسوّف في سداد ما عليه من دين رغم أنه واجد , فيكون سلوكه هذا سببا ليس في امتناع المقرض عن إقراضه ثانية إن وقع في ضيق أو أزمة مادية فحسب , بل ربما كان سببا في امتناع المقرض عن إقراض غيره من المسلمين ممن قد يكون مضطرا ومحسنا في الوفاء والأداء , خشية أن يذهب ماله أو تضيع منفعته في تسويف المقترض الجديد ومماطلته .

 

 

 

ومن هنا كان تحذير النبي صلى الله عليه من ظاهرة مماطلة الغني والواجد , واصفا ذلك السلوك بأنه ظلم , نظرا لما لسلوكه المنافي للقيم والمبادئ الإسلامية من نتائج سلبية على المجتمع المسلم , لعل أبرزها تراجع أعمال البر والخير بين الناس , ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ ) صحيح البخاري/2287

 

 

 

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بوصف هذا السلوك بالظلم تحذيرا للمسلمين من الوقوع فيه فحسب , بل جعل له عقوبة رادعة , ففي الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ ) قَالَ وَكِيعٌ : "عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُه" مسند الإمام أحمد برقم/17946 وحسنه الألباني .
 

 

 

 

ليست مماطلة الواجد هي المثال الوحيد الذي يعتبر سببا في بروز ظاهرة تراجع أعمال البر والخير في المجتمع المسلم مقارنة بما كان عليه الحال في الزمن الجميل – كما يقال - فهناك العشرات – بل والمئات – من الأمثلة التي قد تكون عاملا في توقف الناس أو إحجامهم عن تقديم البر وبذل المعروف والاستمرار في الإحسان .

 

 

 

ولعل في سلوك بعض المسلمين مع ما يستعيرونه عادة من بعض جيرانهم أو أرحامهم من أدوات , وعدم مراعاتهم لأخلاقيات الإسلام في رد العارية والمحافظة عليها دون تقصير أو إهمال .... ما يعتبر سببا آخر في تراجع أعمال البر و انكفاء بعض المسلمين عن المبادرة بالإحسان إلى الآخرين في المجتمع المسلم .

 

 

 

فهناك شكوى متزايدة من كثير من المسلمين من سوء تعامل جيرانهم مع الأدوات التي يستعيرونها منهم , سواء من خلال عدم إعادتها إلا بعد وقت طويل مع حاجة صاحبها لاستعمالها , أو من خلال إعادتها بغير الحالة الجيدة التي كانت الأداة عليها , أو عدم إعادتها إلى صاحبها أبدا أو أو...... الأمر الذي قد يدفع البعض إلى عدم الرغبة في إعارة جاره أي شيء مستقبلا .

 

 

 

والحقيقة أن أمثال هذه السلوكيات التعاملية السلبية تتنافى مع أبسط بدهيات حسن الجوار فضلا عن توجيهات الإسلام التي أوصت بشكل لافت بالجار , ففي الحديث الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) صحيح البخاري برقم/6015
 

 

 

بل إن السيرة النبوية تعطي المسلمين درسا بليغا رائعا في كيفية التعامل مع الشيء المستعار أو المهدى من الجار أو غيره , ففي مشهد لافت لا ينسى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم رد البديل عن الصحفة التي كسرت في بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رغم أن الموقف قد يُنسي صاحبه الالتفات إلى مثل هذه المسائل .

 

 

 

ففي الحديث الصحيح عن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ , فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ , فَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ : ( غَارَتْ أُمُّكُمْ ) ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا , فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا , وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ . صحيح البخاري برقم/5225

 

 

 

بل إن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقابل الهدية بالهدية والإحسان بالإحسان , ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا مِنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا ، وَكَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرَتُهُ ) مسند أبي يعلى بإسناد صحيح برقم/3456

 

 

 

إن التزام المسلمين بأوامر الله تعالى وهدي نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم كفيل ليس بشيوع أعمال البر في المجتمع المسلم فحسب , بل وبانتشاره في أصقاع الدنيا من أقصاها إلى أقصاها .