في غرفة العناية المركزة
5 جمادى الثانية 1437
د. عمر بن عبد الله المقبل

إذا قُدِّرَ لك أن تزور غرفةَ العناية المركزة فقد ساق الله لك خيرًا كثيرًا، وواعظًا صامتًا أبلغ من عشرات المواعظ!

 

إن دخولَ المريض هذه الغرفة هو مشهد من مشاهد الضعف البشري والقدرة الإلهية..

 

في كثير من الحالات يقف الأطباءُ حائرين أمام الحالات التي أمامهم، يرون جسداً تدبّ فيه الروح، وغاية ما يقدرون عليه هو المحافظة على كل ذرة صحةٍ بقيت فيه، ومراقبة الشاشات التي تُعطي المؤشرات عن القلب والتنفس وبقية الأعضاء!

 

حين تزور مريضًا فيها، وتتذكر قوّة بدنه، وقوة حجّته، وشبابَه وسعيه في هذه الحياة، ثم تراه ممدّداً على هذا السرير، يفرحُ زوّرُاه أن يسمعوا منه كلمة، أو أي إشارة تدل على حياةٍ مستقرة؛ حين يكون ذلك تتوارد عليك جملةٌ من الأسئلة.. أين ذهبت تلك القوى الحسيّة والمعنوية؟ أين قوةُ حجّته؟ أين ذهبت القدرةُ على الكلام؟ أين العضلات المفتولة؟ والصوت الجهوري؟ والحديث المتتابع؟!

 

عجباً لهذا المخلوق حين يتكبر! وعجبًا له حين يطغى ويتجبر حالَ صحّته! ليته يَرى صورتَه وهو ممدّد على سرير المرض الذي لا يَقدر فيه على شيءٍ سوى التنفس أو إشارة بالعين أو بالأصبع.

 

ليت شعري ما الذي يجول في صدور نُزلاء هذه الغرَف من العِبَر والوصايا لزوّارهم؟

 

أظنهم لو تكلّموا لقالوا: لقد رأينا مصداقَ قوله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"([1]).

 

ولو تكلم أحدُهم لقال ما ورد في الحديث المشهور: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناكَ قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك"([2]).

 

ولو أنهم رأوا شخصًا من المتقاطعين مع أقاربهم أو أصدقائهم من أجل لعاعة من الدنيا لقالوا: لقد عرفنا أن الدنيا كلَّها - بأموالها ولذاتها - لا تُساوي فراشَ السرير الذي نفترشه أو نلتحفه! فكيف نجح الشيطانُ في التفريق بينكم؟!

 

هذه الغرفة تُزهّد المغترين بالمكاسب المحرّمة..ولو نطقت أسِرّتها لقالت: هَبُوا أنكم تحايلتم على الربا، أو الرشوة أو السرقة من المال العام أو أي مكسب محرّم..بالله زوروا هذه الغرفةَ لتنظروا هل تنفعكم هذه المكاسب إذا وُضعتم على هذه الأسِرّة؟ وهل ستتقربون بتلك المكاسب؟ ولئن سَلِمْتم فيما بينكم وبين الله؛ فماذا تصنعون بحقوق الخلق؟

 

وإلى المُطْلِقين لأبصارهم وأسماعهم في الحرام، ويريدون واعظًا مباشرًا..بالله زوروا هذه الغرَف، لتنظروا إلى الحال التي يؤول إليها سمعُ الإنسان وبصرُه إذا أدخل في هذه الغُرَف! ماذا لو لاحتْ لكم تلك الصورُ المحرّمة؟ والمسامعُ الآثمة؟ أتراكم تسمرون أعينكم؟ أو تُلقون أسماعكم لها، وتقولون: عجزنا عن مجاهدة نفوسنا؟!

 

وفي المقابل: فإن زيارةَ هذه الغرفة لتكشف لك عن أثر الصلة بالله حال الرخاء على أحوال بعضِ هؤلاء المرضى..فكم رأى الناسُ من آثار السكينة والطمأنينة على مرضىً يُعانُون ما يعانون من أمراض خطيرةٍ ومؤلمة كالسرطان، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته للأمة - التي نقلها لنا الحبرُ ابن عباس-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة..." الحديث([3])، وأي شدّة أعظم من هذه في حال الحياة سوى شدّة الموت وسَكرته؟

 

ومن آثار الرضى التي تَلمحها في حال بعض أولئك المرضى: ما يقع مِن يُسر وسهولة في نزع أرواحهم؛ فتُسْتَلُّ كما تُسْتلُّ الشعرة من العجين! فمن كان له لبٌّ فليستعدّ لهذه اللحظات التي لا بد منها، سواء دخل "غرفة العناية المركّزة" أم لا!

 

اللهم فاكشف ضُرّ مَن دخلها من إخواننا المسلمين، وأسبِغ الرحمةَ والرضوان على مَن غادروها إلى القبور، وارزقنا الاعتبار، وأحسِن مُنقلَبَنا إليك.

 

_________________________

([1]) البخاري ح(6412).
 ([2])  رواه النسائي في الكبرى ح(11832)، فيه إرسال.
 ([3]) رواه الترمذي ح(2516)، وأحمد ح(2803) واللفظ له.

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل