الازدواجية الغربية في أبهى تجلياتها
22 جمادى الثانية 1437
إسماعيل ياشا

القنصل العام البريطاني في إسطنبول “لي تيرنر” وعدد من أعضاء بعثات دبلوماسية حضروا يوم الجمعة الماضي جلسة محاكمة رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” التركية، جان دوندار، ومدير مكتبها في العاصمة أنقرة، أردم غول، المتهمين بالتجسس وإفشاء أسرار تضر بالأمن القومي التركي ودعم الكيان الموازي. ولكن تيرنر لم يكتف بمتابعة الجلسة، بل التقط صورة “سيلفي” مع دوندار ونشرها في حسابه بموقع “تويتر”، ما أثار موجة غضب في الأوساط الحكومية والشعبية التركية، وأدى إلى إطلاق حملات في وسائل التواصل الاجتماعي تطالب الدبلوماسي البريطاني بأن يعود إلى بلده، كما تدعو الحكومة التركية إلى اعتباره “غير مرغوب فيه”.

 

 

 

رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان في أول تعليقه على حضور قناصل عدد من الدول في مدينة إسطنبول جلسة محاكمة الصحفيين، تساءل عن سبب ذلك وبأي صفة حضروا الجلسة، وانتقدهم قائلا: “إن للدبلوماسية آدابها. هذه ليست بلادكم. ماذا تفعلون هناك؟ بإمكانكم التحرك داخل مباني القنصلية، وأما خارجها فيحتاج ذلك إلى إذن”، ثم أضاف أنه لو انتهج دبلوماسي في دولة أخرى مثل هذا التصرف لما سمح له بالإقامة في تلك الدولة ليوم واحد.

 

 

 

الخارجية التركية بدورها أبلغت دول الدبلوماسيين المعنيين استياءها، وقالت إن ما تم نشره في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل بعض أعضاء البعثات الدبلوماسية، في إشارة إلى تغريدات تيرنر، يعتبر تدخلا في سير العملية القضائية المستقلة، وتصرفا لا يتوافق مع مبدأ الحيادية.

 

 

 

القنصل العام البريطاني، كتب تغريدة في حسابه بموقع “تويتر” للرد على الانتقادات الموجهة إليه، وقال فيها إن “الأهم هو أن تقرر تركيا أي نوع من الدول ستكون”، غير أن هذا التعليق نفسه لا يخلو من الوقاحة والتعالي، لأن تركيا ليست من مستعمرات المملكة البريطانية، ولا من حق القنصل العام البريطاني أن يتدخل في شؤون القضاء التركي أو أن يحكم على تركيا كما يحلو له.

 

 

ما تطالب به تركيا الدول الغربية أن لا تمارس ازدواجية في مثل هذه الحالات، وأن تقارن ما تفعله تركيا بما كانت ستفعله هي نفسها لو كانت تلك الحالة لديها. وهناك أمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها لمعرفة ماذا فعلت الدول الغربية في قضايا التجسس وكشف أسرار الدولة.

 

 

 

الكاتبة الفرنسية “فلورانس هارتمان”، اعتقلت يوم الخميس الماضي في لاهاي التي ذهبت إليها لتشهد جلسة الحكم على زعيم صرب البوسنة السابق “رادوفان كاراديتش”، واحتجزت في مكان منعزل وعوملت كمجرمة، بسبب إدانتها بازدراء المحكمة الجنائية الدولية في عام 2009 لنشرها وثائق سرية. وكانت هارتمان التي عملت ناطقة باسم المحكمة حتى عام 2006، ألَّفت كتابا تحت عنوان “السلام والعقاب” وكتبت مقالا كشفت فيه عن وجود وثائق سرية تؤكد اشتراك الحكومة الصربية في الحرب البوسنية في التسعينيات. ولم نر أيا من أعضاء البعثات الدبلوماسية الغربية يقف إلى جانب الكاتبة الفرنسية ويدافع عنها.

 

 

 

هناك مثال آخر أكثر وضوحا، وبالتحديد من بريطانيا التي يمثلها تيرنر، وهو ما تعرضت له صحيفة الغارديان حين نشرت وثائق سرية قدَّمها لها العميل الأمريكي السابق “إدوارد سنودن”. وقالت الصحيفة إنها تعرضت لضغوط شديدة من جانب الحكومة البريطانية التي طلبت منها إتلاف المواد الخاصة بسنودن وهددت الصحيفة باتخاذ خطوات قضائية ضدها إن لم يتم إتلاف تلك الوثائق.

 

 

 

صحيفة الغارديان رضخت أمام تهديد الحكومة البريطانية وضغوطها، وقامت بإتلاف الأقراص الصلبة والأسطوانات المدمجة التي تحتوي على وثائق سندون، وأشرف موظفو المخابرات البريطانية على عملية الإتلاف في مبنى الصحيفة. ولم نر ذاك اليوم أحدا من أعضاء البعثات الدبلوماسية الغربية يزور مبنى صحيفة الغارديان للتضامن معها والدفاع عن حرية الصحافة.

 

 

 

لماذا لا ينتظر القنصل العام البريطاني حكم المحكمة ونتيجة العملية القضائية، خاصة أن القنوات مفتوحة أمام المتهم لاستئناف القضية أو نقلها إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؟ وهل يرى نفسه فوق القضاء التركي أم إنه حضر الجلسة ليؤدي واجب الوقوف إلى جانب “عميل” يعمل لصالح الملكة البريطانية؟ وهل يجوز تهديد الصحفي ومحاكمته في بريطانيا بسبب نشر وثائق سرية ويحرم في تركيا؟

 

 

 

الصحفي جان دوندار لا يحاكم بسبب آرائه المعارضة للحكومة، بل بسبب نشره وثائق سرية تضر بأمن الدولة، بالإضافة إلى ارتباطه بمنظمة “الكيان الموازي” الإرهابية التي قامت بمحاولة الانقلاب على الحكومة المنتخبة. وأي واحد تُوَجَّه إليه هذه التهم تتم محاكمته في جميع الأنظمة الديمقراطية المتقدمة، بغض النظر عن هوية المتهم ومهنته.

 

 

 

المصدر: عربي21