حاجتنا لتربية الأولاد على آداب المسجد
21 جمادى الثانية 1437
د. عامر الهوشان

ما إن سلم إمام المسجد معلنا انتهاء صلاة العشاء جماعة في أحد مساجد إحدى المدن العربية الإسلامية , حتى ارتفع صوت أحد المصلين مطالبا الإمام أن يتكلم بشأن الصبية والأولاد الذين كانوا يلعبون وترتفع أصواتهم أثناء أداء الصلاة , معربا عن تذمره الشديد من هذه الظاهرة التي أفسدت عليه خلوته بربه سبحانه , وأشغلته عن أداء الصلاة كما ينبغي .

 

 

لم يتكلم الإمام في الأمر ولم ينبس ببنت شفه , واكتفى بالصمت ومتابعة قراءة ورده بعد الصلاة , ليخرج المصلين من المسجد منقسمين بشأن ما حدث ويحدث باستمرار في المسجد ومساجد المدينة عموما إلى فريقين :

 

 

أما الفريق الأول : فرأى وجوب معالجة الظاهرة بعدم اصطحاب الأولاد إلى بيوت الله نظرا لما يترتب على ذلك من آثار سلبية ليس أولها التشويش على المصلين , وليس آخرها العبث بأثاث المسجد والإساءة لحرمة بيوت الله تعالى , مستشهدين على رأيهم بحديث : ( جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَاجْمِرُوهَا فِى الْجُمَعِ وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ مَطَاهِرَ ) سنن البيهقي برقم/20765 وابن ماجه برقم/750 وضعفه عدد من أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر والشيخ الألباني وغيرهم .

 

 

وأما الفريق الثاني : فيرى عكس ذلك تماما , فلا بأس في رأيهم من تحمّل تشويش الأطفال على المصلين أثناء الصلوات الخمس , ولا ضير في التغاضي عن عبثهم ولهوهم في المسجد وإساءتهم لحرمة بيوت الله , في سبيل تعويدهم على ارتياد بيوت الله وحضور الجمعة والجماعات , ويرون ذلك أهون وأقل شرا من بقائهم في الشارع وهجرهم للمساجد في هذا العمر الذي تتكون فيه السلوكيات الصحيحة حسب وصفهم .

 

 

ويستشهد هذا الفريق بالكثير من الأدلة التي تجيز حضور الأولاد للجمعة والجماعات ومنها : حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ فَأُخَفِّفُ ، مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَتَنَ أُمُّهُ ) سنن الترمذي برقم376 وقال حديث حسن صحيح, وفي رواية : ( إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ ) سنن البيهقي برقم/4213 , وهو ما يشير بوضوح إلى جواز دخول الصبيان إلى المساجد .

 

 

 

لم يكن هذا الموقف هو الوحيد الذي يشير إلى أهمية معالجة ظاهرة مخالفة بعض الصبيان والأولاد لآداب المسجد , فهناك الكثير من المواقف المشابهة التي لا يمكن حصرها في هذا المقال , والتي تؤكد حاجتنا الملحة لتربية الأولاد على مراعاة  حقوق بيوت الله في هذا العصر .

 

 

 

ويحضرني في هذا المقام موقف هو أشد من السابق إبرازا لهذه الظاهرة , وأدعى لمعالجتها وإيلائها المزيد من العناية والاهتمام من قبل الأولياء و المربين , ففي أحد المساجد وأثناء خطبة الجمعة , توقف الخطيب فجأة عن مواصلة الخطبة , وتوجه بالكلام إلى بعض الصبيان الذين كانوا يشوشون عليه وعلى المصلين بكثرة تحركهم وكلامهم , منبها بضرورة التزام الأولاد بآداب المسجد , وموجها الآباء بضرورة ضبط أولادهم إن قرر أحدهم أن يصطحبهم إلى المسجد , لينتهي الأمر إلى ما هو أغرب وأعجب من ذلك , فقد دعا خطيب المسجد – من شدة التشويش وعبث الصبيان – قيّم المسجد أن يخرج الأولاد من المسجد ولو بالقوة !

 

 

 

لا شك ان الأمر بعد الأمثلة السابقة يستدعي التأمل والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله لاستخلاص المعالجة الصحيحة لهذه الظاهرة المتفشية , والحقيقة أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر واضحة جلية , فالعلاج لا يكون أبدا بطريقة طرد الأولاد من بيوت الله , كما أنه ليس بحرمان الأولاد ومنعهم من ارتياد المساجد وحضورهم للجمعة والجماعات كما يرى البعض, لأن ذلك ببساطة مخالف لما كان عليه الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة والسلف الصالح .

 

 

 

فبالإضافة إلى حديث تخفيف وتجوّز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في صلاته بسبب بكاء الطفل الصغير , والذي يشير - كما سبق – لجواز اصطحابهم إلى المسجد , هناك الكثير من الأدلة الأخرى التي تؤكد هذا الأمر منها :

 

 

 

حديث أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا . صحيح البخاري برقم/516

 

 

 

وكذلك حديث ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَام عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ وَحَمَلَهُمَا فَقَالَ : ( صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى نَزَلْتُ فَحَمَلْتُهُمَا ) سنن النسائي برقم/1584

 

 

 

ولا يعني ذلك أبدا ترك ظاهرة تشويش الأولاد والصبيان على المصلين أثناء الصلوات الخمس وأثناء صلاة الجمعة دون معالجة أو حل , والاستسلام إلى الأمر الواقع – كما هو حال البعض بدعوى أنهم أولاد ولا بد من تحمّل إساءتهم حتت يكبروا - دون العمل على تغييره , فللمسجد في الإسلام حرمة وآداب لا بد أن يلتزم بها كل من يرتاده ويدخله , سواء كلن صغيرا أو كبيرا رجلا أو امرأة .

 

 

 

والحقيقة أن علاج ظاهرة تشويش الصبيان على المصلين في المساجد ليس بالأمر العسير ولا المستحيل , بل هو في الحقيقة يسير إن كان هناك إرادة واهتمام وتعاون بين الآباء والمعلمين والمربين , وذلك من خلال القيام ببعض الخطوات وأهمها :

 

 

1- قيام أولياء الأمور والآباء بتربية أولادهم وتعليمهم منذ نعومة أظفارهم آداب المسجد , وفي مقدمتها الشعور بقدسية المكان وحرمته , وما يستلزمه ذلك من السكينة و الإنصات وحسن الاستماع والهدوء وعدم التشويش على المصلين أثناء الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة .

 

 

 
2- متابعة الآباء لهذه التربية وحسن سيرها من خلال مرافقة كل أب لولده إلى المسجد  , ومجاورته له في الجماعات وخلال صلاة الجمعة , وإبداء الملاحظات والتنبيه على الأخطاء بعد الصلاة إن حدثت , حتى يتشرب الولد هذه الآداب ويتخلق بها , فيكون ذهابه وحده بعد ذلك إلى المسجد ممكنا ومأمونا , ولا يترتب عليه أي أذى أو أثر على المسجد أو المصلين .

 

 

3- عدم ترك الأولاد متجاورين أثناء صلاة الجماعة أو الجمعة , وذلك لتفادي التشويش الذي قد يحدثه هذه التجاور , وهو في الحقيقة واجب الآباء حتى يرتقوا بالولد شيئا فشيئا إلى مستوى الالتزام بآداب المسجد بحضور والده أو بغيابه .

 

 

 

لا أظن أن هناك طفلا أو صبيا يمكن أن يشوش على المصلين أو يسيء الأدب في المسجد إن تم التدرج معه بما سبق من خطوات وغيرها مما يجب أن يتعلمه الصبيان قبل أن يرتادوا بيوت الله , فالحقيقة المرة تؤكد أن تشويش بعضهم على المصلين , وعدم مراعاتهم لآداب المسجد , سببها في الحقيقة والواقع إهمال أولياء أمورهم في تربتهم على آداب المسجد قبل أن يرسلوهم إلى بيوت الله , فالحديث واضح في مسؤولية الآباء والأمهات : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ....) صحيح البخاري برقم/1358

 

 

 

وينشأ ناشئ الفتيان منا ........ على ما كان عوده أبوه