وداعا خالد
11 رجب 1437
د. عمر بن عبد الله المقبل

بقيتُ أكثر من شهر وأنا أكبح جماح قلمي عن الكتابة عن خالد..

 

خالد الذي غيّبه اللحدُ، وطوته يدُ المنون في كهولته..

 

خالد الذي عشتُ معه في ملاعب الصِّبا، بلهوها وعبثها ومشاغباتها الطفولية، والتي صارت ـ بعدُ ـ جزءاً جميلا من ذكريات تلك المرحلة..

 

خالد الذي امتدت رحلتُنا معاً أكثر من خمسةٍ وأربعين عاماً..

 

لقد كنتُ أقرأ أبيات الخنساء الشهيرة في رثاء أخيها صخرٍ، فلما مات خالد قرأتها بلغة أخرى، ونفْسٍ كلْمى، وأدركتُ ـ كما لم أدرك من قبل ـ معنى قولها يوم قالت:

ألا يا صخرُ لا أنساك حتى ** أفارقَ مهجتي، ويُشقّ رَمْسى
وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزّي النفسَ عنه بالتأسي

 

لقد كانت سنواتُ حياته كلها شيئاً..والسنةُ الأخيرة من حياته شيئاً آخر..إنها رحلة الصراع مع المرض، الذي لم يمهله طويلاً.

 

بدأ في منتصف عام 1436هـ يشعر بآلامِ المرض، وبدأتْ في ازدياد، لكنه لم يخطر بباله ولا نحن - أهلَ بيته - أنه هو المرض الأخير..

 

دخل رمضان الماضي، وهو يجاهد نفسَه على الأكل والشرب، كما كان يجاهدها على الصوم، فصام رمضان كلّه إلا يومين اثنين، مع أن السرطان ـ في تلك الأيام قد تقدّم انتشارُه ـ كما أبلغنا الأطباءُ بعدُ.

 

في ليلة 27 من مضان يمّم وجهَه شطر الرياض ليفحص، فإذا بالخبر الفاجعة! إنه المرض المخوف..هنا بدأتْ رحلةٌ جديدة من العناء، ورحلةٌ أخرى مع الصفاء..

 

أما العناء فمع هذا المرض، الذي يَشعر القريبُ من مرضاه بالأوجاع تتابع، فكيف بمن يكتوون بنارِه؟

 

وأما رحلةُ الصفاء فمع قلب خالد الذي ـ أحسبه ـ ذاقَ لذةَ مناجاة الله، وشعر بطعم الوحدانيةِ له، وطوّف في جنّة الرضا، وترقّى في مدارج البلاء، وقوي عندَه حسنُ ظنّه بربه، والصبرُ على قضائه وقدَره، والرضى باختيار خالقه ومدبّر أمره.. تلقّى الخبرَ بالصبر والاحتساب، والجدّ في فعل الأسباب.

 

المريضُ حين يبدأ رحلةَ المرض فإنه لا يمرض وحده، وإذا كان في مرضٍ كهذا فإن أهل بيته يشتغلون به ومعه..وهكذا كان، فالوالدان والزوجة، وبقيةُ أهل بيته، كلهم في شغلٍ مع ما أصاب خالد..

 

بدأت رحلةُ العلاج المضنية، بجرعاتِ الكيماوي في شهر شوال، حتى توقّف عن تلك الجرعات قبيل وفاته بشهر ونصف، حين فقد الجسمُ قدرتَه على تحمّلها.

 

لقد بلغ المرضُ منه مبلغاً عظيماً، رأيتُ أثَرَه في تقاسيم وجهه، ويُبُوسِ جلده، ونحول جسده، وفي حديثه عن المشقة التي كان يجدها عند قضاء الحاجة..ولم يذكرها لي إلا لما ألححتُ عليه في الذهاب إلى مكة قبل موته بشهرين.

 

الموتُ هو سنةُ الله في خلقه، لكن المهم كيف سنموت؟ وبم نلقى الله؟

 

أذكر لأخي حرصَه الشديد على برّ والديه، ولا أنسى كم كان يذكّرني بالهدية..والصدقة ..وتفريغ أكبر وقتٍ ممكن للجلوس معهما، ومراعاة كبَر سنّهما ـ متّع الله بهما على حسن عمل ـ..ولكم غبطتُه على أن مات ووالداه راضيان عنه، ويدعوان له..وكم سمعتُ والديّ يعلنان الرضى عنه، ويدعوان له بالجنة، فغبطته، وقلتُ في نفسي: هذه رحمة والديه، فكيف برحمة الله!

 

وأذكرُ له صبرَه العظيم على ما أصابه، ورغم شدّة الألم عليه, والتي كانت تتضاعف حين كان يأخذ جرعات الكيماوي، والتي كانت بمثابة الأسيد الذي يلتهب ناراً في جوفه ـ كما حدثني رحمه الله ـ فلم لم أسمع منه يوماً كلمةَ جزَعٍ أو تسخّط..بل كان يتقلب في عبوديةِ الصبر!

 

وأذكر له أنه حدّثني ـ إبان عمَلِه في شركة الكهرباء وكيلاً عنها في استئجار ما يناسب من مواقع لأبراجها وغُرَفها ـ عن أولئك الذين يلوّحون بالرشوة من أجل أن يوقّع لاستئجار موقع لهم تمرّ به أبراج الشركة، فيأبى ـ مع أن بعض هذه الرشا يعادل راتبه عدة سنوات ـ ويقول: والله يا عمر إني أرحمهم! يريدون أن ندخل النار بحفنة دراهم! فانظر كيف عصمَه اللهُ من قبولها، وكيف انتقل مِن رفضها إلى الشفقةِ على هؤلاء.

 

وأمرٌ آخر، وهو أنني كنتُ ـ بعد اكتشاف المرض ـ أوصيه كغيري بالصدقة، وأثرها في تفريج الكربة، فيسكت، ثم لما أعدتُ الاقتراح عليه بإطعام هؤلاء العمّال الذين يكنسون الشوارع، قال: الحمد لله؛ فأنا منذ سنتين أو قال سنوات، أقوم بإطعامهم بصورة يومية حسب المتيسر!

 

وأحسبُ أن لديه من خبايا الصالحات ما كتَمَه عن الناس، ولعلها أحدُ أسباب ذلك الجمع الكبير الذي شوهد في جنازته، وأحسب هذا أيضاً من شواهد محبّة الناسِ له.

 

أسأل الله أن يجعل ما أصابه رفعةً لدرجاته وكفارةً له، وأن يثيبه ثوابَ الصابرين الذين يوفَّون أجرَهم بغير حساب، وأن يخلُفَه في أهله وولده..سلامٌ عليك أبا عبدالله يوم مِتّ ويوم تُبعَث حيا، وفي الجنة ملتقانا بإذن الله.

 

__________________________

([1]) توفي شقيقي خالد فجر السبت 3/ 6 / 1437هـ، رحمه الله رحمة واسعة.

 

* المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ الدكتور عمر بن عبد الله المقبل