أيتها القلوب الطيبة .. هذه العشر فبادروا
26 ذو القعدة 1437
د. خالد رُوشه

منة من الرحمن سبحانه أن جعل لنا أوقاتا مباركة , تسعد فيها الارواح , وترتاح النفوس , وتهدأ القلوب , ويعيش فيها المؤمنون بيئة إيمانية صالحة , تعينهم على التوبة والإصلاح , والإيجابية والعبودية ..

 

 

وتمر على النفس أوقات وأيام تكون فيها أقرب ما تكون إلى العودة إلى الله وبناء عهد جديد معه _سبحانه_، وتعد هذه العشر من ذي الحجة أنسب ما يكون لتلك الأوبة وخلاص التوبة.

 

 

لقد جمعت تلك الأيام العشر الخير من أطرافه، فهي خير الأيام وأعلاها مقاما.

 

 

- أقسم بها الله سبحانه في كتابه بقوله _تعالى_: "وليال عشر" إذ يقول جمهور المفسرين: إن مقصودها عشر ذي الحجة.

 

 

ورفع النبي _صلى الله عليه وسلم_ شأن العمل الصالح فيها أيما رفعة حين قال: " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر " أخرجه البخاري عن ابن عباس _رضي الله عنه_.

 

 

وقال أيضاً _صلى الله عليه وسلم_: "ما من عمل أزكى عند الله _عز وجل_ ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى" رواه الدارمي عن ابن عباس وحسنه الألباني.

 

 

وأمر فيها _صلى الله عليه وسلم_ بكثرة الذكر، إذ يقول _صلى الله عليه وسلم_: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير و التحميد". أخرجه أحمد عن ابن عمر.

 

 

وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يصوم تسع ذي الحجة فقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه الألباني عن بعض أزواج النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنها قالت: كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول اثنين من الشهر وخميسين"، قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: "إنه مستحب استحباباً شديداً"

 

 

وأمر بصيام يوم عرفة فقد روى مسلم عن أبي قتادة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية "وروى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: " كنا ونحن مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نعدله بسنتين " وصححه الألباني.

 

 

يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.

 

 

وكان التابعي الجليل سعيد بن جبير " إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه"، وروي عنه أنه قال: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر" يريد قراءة القرآن وصلاة الليل.

 

 

وقال بن رجب الحنبلي: "لما كان الله _سبحانه_ قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادراً على مشاهدته كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين".

 

 

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟

 

 

فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة".

 

 

وقال ابن القيم مقارناً بين فضل تلك الأيام: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر" كما في سنن أبي داود عنه _صلى الله عليه وسلم_ قال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر". ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر. وقيل: يوم عرفة أفضل منه؛ لأن صيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة، ولأنه _سبحانه وتعالى_ يدنو فيه من عباده، ثم تباهي ملائكته بأهل الموقف "

 

 

لقد جمعت هذه العشر حقاً الخير من أطرافه، فصارت بحق جماعاً للخير، فما من عمل صالح إلا ويستحب فيها ، وما من أيام هذا العمل الصالح فيها خير منها.. فهي خير محض للنفس الطاهرة النقية، وهي دورة روحية إيمانية تتبوأ من العام مكان الصدارة من حيث خيرية الأيام.

 

 

أما من وفقه الله لحج بيته فقد وفقه إلى خير ما يحب، وقد اختاره ليغسله من ذنوبه ويرجعه – إن أخلص نيته وأحسن حجه – كيوم ولدته أمه، ويسر له أن يفتح سجلاً جديداً أبيض يبتدئ فيه عهداً إيمانياً جديداً.

 

 

فثياب الإحرام تخرجه من حيز رؤية المتاع وتضعه في حيز رؤية الكفن، فلا زينة خداعة، ولا شهوة مغفلة، ولا صراعاً أحمق على الدنيا الزائلة، فالكل في ثوب الإحرام سواء تماماً كما هم في الثوب الأخير، والكل خائفون من الذنب راجون الرحمة التي وسعت كل شيء.

 

 

وليعلن المؤمنون يوم الحج إعلاناً عالمياً – في وقت تنزف فيه الأمة وتسيل دماؤها – أن شعوب المسلمين في كل أنحاء الأرض هم على قلب واحد، ومنهج واحد، وهدف واحد.. يعبدون رباً واحداً، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فليخسأ عندئذ الشيطان وأولياؤه، وليعتز كل مسلم بدينه، ذاك الدين الذي يعلوا؛ إذ إن الله مولاه وأعداؤه لا مولى لهم..!!

 

 

وفي ذات الوقت الذي يثج فيه الحجيج دماء هديهم..وينهر المضحون دماء أضاحيهم يوم النحر وتعلوا في الآفاق أصوات التكبير.. يقدم الشهداء الصالحون في كل ربوع الأرض دماءهم ونفوسهم طيبة رخيصة لوجه الله ربهم، فتبتسم شفاههم عند آخر أثر للروح، ويستقبلون الآخرة يثج منهم الدم.. اللون لون الدم.. والريح ريح المسك..