لماذا تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج ؟
8 ذو الحجه 1437
د. عامر الهوشان

في مثل هذه الأيام المباركة من كل عام , ومع حلول أشهر الحج المعلومات التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم بقوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ....... } البقرة/197 تهفو قلوب الملايين من المؤمنين إلى زيارة أطهر بقاع الأرض , وتطير أفئدة الذين منعتهم الأعذار المادية أو المعنوية إلى تلك الأماكن المقدسة لتتلمس هناك شيئا من إيمانيات الحج ونسماته الروحية . 

 

 

 

كم من عبرة ذرفتها تلك العيون المحرومة من أداء فريضة الحج وهي ترى وفود الحجيج تصل تباعا إلى مكة المكرمة , وكم من زفرة خرجت من أفئدة مكلومة حرقة وألما على فوات مشاركتها في ذلك المشهد المهيب الذي لا يمكن أن يُرى أو يُشاهد إلا في موسم الحج .

 

 

 

قد يستغرب كثير من غير المسلمين هذه المشاعر الفياضة وتلك الاحاسيس المرهفة , وقد يتعجب بعض المسلمين - ممن لم يتذوقوا بعد حقيقة حلاوة الطاعة ولذة العبادة - ذلك الشوق والحنين من كثير من المؤمنين إلى مكة والكعبة وسائر المناسك المقدسة , فهم لا يرون في أداء الركن الخامس من أركان الإسلام إلا : الكلفة المادية والجهد البدني والحرمان من متع الحياة وشهواتها !! ومن هذه الزاوية المادية الضيقة يتساءل أمثال هؤلاء : لماذا تهفو قلوب الكثير من المسلمين إلى الحج ؟!

 

 

 

والحقيقة أن الجواب على هذا السؤال من السهولة بمكان لمن طلب الحق على الحقيقة , وابتعد عن المكابرة أو المعاندة , ويمكن اختصار الجواب فيما يلي :

 

 

1-   تلبية لنداء ابراهيم عليه السلام الذي أمره الله تعالى أن ينادي في الناس بالحج فقال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } الحج/27 , وامتثالا لأمر الله تعالى لعباده بأداء مناسك الحج والعمرة بقوله تعالى : { ......وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا....... } آل عمران/97 , واقتداء بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي حج بيت الله الحرام مع أصحابه مخاطبا إياهم وأمته من بعده : ( أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ) فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ 9 صحيح مسلم برقم/3321

 

 

 

2-   تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج بحثا عن السعادة والطمأنينة الحقيقية التي لا يمكن أن ينالها الإنسان على وجه هذه الأرض إلا بطاعة الله تعالى وعبادته , تلك السعادة التي يستشعرها حجاج بيت الله الحرام في كل لحظة من لحظات أداء هذا الفريضة العظيمة , منذ خروجهم من بيوتهم وحتى الانتهاء من آخر منسك من مناسك الحج .

 

 

 

تلك السعادة التي يبحث عنها ويسعى إليها أبناء آدم عليه السلام جميعا , فيشرقون ويغربون ... ثم لا يجدونها على الحقيقة إلا في رحاب الإيمان ومحراب العبودية لله تعالى وحده , بعد ان تقطعت بهم السبل في البحث عنها في كثرة المال أو عز الجاه أو الولوج في حمأة الشهوات دون جدوى أو فائدة .

 

 

 

إن لحظة واحدة من لحظات الإخلاص والإنابة إلى الله تعالى في تلك الأيام المباركة من أيام الحج ولياليه , كفيلة بإغراق تلك القلوب الملبية المهللة المكبرة بسعادة لا توصف , وراحة وطمأنينة وسرور لا يمكن أن يعبر عنها إلا من ذاقها وشعر بها .

 

 

 

3-   طلبا لمغفرة الله تعالى و عفوه , فمن المعروف أن الحج من أعظم العبادات المكفرة للذنوب والخطايا , بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحج الخالي من الرفث والفسوق وسيلة لتطهير صحيفة الحاج من الذنوب والخطايا بحيث يعود من حجه كيوم ولدته أمه , لا ذنب عليه ولا إثم , ففي الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) صحيح البخاري برقم/1521 , وفي رواية مسلم : ( مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) صحيح مسلم برقم/3357

 

 

4-   تشتاق أفئدة الموحدين لأداء مناسك الحج طمعا بالجنة التي وعد الله تعالى بها الحج المبرور على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم , فقد ورد في الحديث عن عامر بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب و الخطايا و الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) صحيح الجامع للألباني برقم/4136

 

 

كثيرة هي مشاعر الشوق والحنين التي تعبر عنها الآهات والدموع التي تذرفها عيون كثير من المحرومين من أداء مناسك الحج في مثل هذه الأيام من هذا العام وفي كل عام , وهم في الحقيقة معذورون في ذلك , فمن عرف منزلة الحج ومكانته في دين الله الإسلام , ومن ذاق حلاوة مناجاة الله في تلك البقاع الطاهرة , ومن أيقن بعظيم الثواب الذي أعده الله تعالى للحاج والمعتمر ..... لن يستغرب أو يتساءل : لماذا تهفو قلوب المؤمنين إلى الحج ؟!