جانب من وحشية ابن علي.. ضحاياه يتحدثون عن عذاباتهم
22 صفر 1438
منذر الأسعد

(كان زوجي يعمل مهندسًا في الشركة التونسية للكهرباء والغاز وفي السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 1991، تم جره من مقر عمله بقابس، وعند مقاومته اعتدى عليه الأمن بالضرب بواسطة قضيب حديدي على رأسه، فأغمي عليه، ثم وضعوه في سيارة ليذهبوا به إلى المركز الأمني بقابس).

 

 

وتضيف زوجة كمال المطماطي: (هناك تعرض للضرب المبرح؛ ممّا تسبب له في كسور على مستوى اليدين أدى إلى نزيف في الدماغ، فنصحنا أحد الأطباء الموقوفين بعدم لمسه لأنه بين الحياة والموت، لكن رئيس المركز قال : "يمثل عليكم"، وانهال عليه ضربًا إلى أن فارق الحياة، منذ ذلك اليوم لم نر كمال ولم نعثر عليه إلى الآن رغم بحثنا الطويل)!!
 

 

رضوخ ورثة الجلاد
بالرغم من هيمنة أزلام الطاغية المخلوع على مفاصل الحكم في تونس اليوم،فإن الضغط الشعبي أرغمهم على الرضوخ لمطلب يحظى بإجماع جماهيري على ضرورة كشف القبح الفظيع الذي كان يتصف به النظام البائد،وخاصة همجيته في التعامل مع مُعَارضيه، بل حتى مع المحايدين من الناشطين الحقوقيين الذين لم يكن لهم أي انتماء سياسي!!

 

ففي يومَيْ 18 و19 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، شهدت تونس حدثاً تاريخياً انتظرته عدة أجيال،مدة 60 سنة لكي تسلط الضوء على أشد صفحات تاريخها المعاصر قتامة وسواداً.

 

استمع ملايين التونسيين إلى وقائع أبعد من الخيال، رواها 15 شخصاً من ضحايا التعذيب الوحشي –أو من ذوي الضحايا الذين لقوا حتفهم في أقبية الطاغية أو بقي مصيرهم مجهولاً حتى اليوم!!-.

 

وفي برنامج المصارحة العلنية التاريخية جلسات أخرى في اليوم  17 من الشهر المقبل  واليوم 14 من شهر يناير/كانون الثاني 2018م.
أديرت المكاشفة بذكاء واضح فقد حرص مديروها على حمايتها من أي تشويش متوقع من لدن فلول الطاغية المخلوع.. لذلك اشتملت الشهادات على ضحايا يساريين وآخرين إسلاميين وعلى ناشطين حقوقيين  ونقابيين وإعلاميين غير مسيسين البتة، مثل سامي إبراهيم الذي كان ناشطاً حقوقياً ومثقفاً غير ثوري، اعتقلته سلطات الأمن التونسية سنة 1991 م، ليقضي ثماني سنوات شديدة القسوة في دهاليز الطاغية،حيث التعذيب الذي لا يحتمله الإنسان..

يقول سامي: السجون التي زرتها كانت أشبه بما تسرب عن أهوال سجن أبو غريب العراقي في مرحلة الغزو الأمريكي، فكل شيء فيها ممكن، كأن يتركك السجان عاريًا، ويتبول عليك، أو يضعك في زنزانة مع شخص مختل عقليًّا، أو يهم بإخصائك، ويصحب ذلك  الضرب والسب والشتم.

 

 

مماطلة 3 سنوات
في ذروة المد الشعبي الغاضب،أقر البرلمان التونسي  «قانون العدالة الانتقالية» في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2013، الذي  أُنشئت وفقاً له هيئة الحقيقة والكرامة، برئاسة الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين، وألقى القانون المذكورعلى عاتق  الهيئة الوليدةمهمة  الكشف عنالانتهاكات الكبرى والمنهجيةلحقوق الإنسان، الحاصلة في تونس منذ استقلالها سنة 1956 حتى صدور قانون العدالة الانتقالية ، وذلك لمحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات، وتعويض ضحاياها ، ورد الاعتبار لهم.

 

وحدد قانون العدالة الانتقالية مدة خمس سنوات لكي تنتهي الهيئة من المهمات التي أوكلها إليها، إلا أن قوى الثورة المضادة دأبت على عرقلة نشاط الهيئة بكل السبل الممكنة،ولذلك تأخرت خطوتها الأولى أربع سنوات!!

 

مع ذلك، شن خفافيش الطاغية حملات ضارية لتشويه المكاشفة التي انطلقت شرارتها،فأطلقوا في مواقع التواصل سهام التشكيك الرخيص، بما يؤكد أنهم ليسوا نادمين على ماضيهم المخزي.
وهذا سلوك متوقع،ما دامت مساعي وأد العدالة الانتقالية بأكملها قد فشلت،وأقصى ما نجحت فيه هو تأخير انطلاقها.

 

 

وما ضاعف من حقد جيوب المخلوع في زوايا الدولة العميقة وفي المجتمع كذلك،الإقبال الشعبي الجارف على الإصغاء إلى شهادات ضحايا إجرام ابن علي وسلفه الهالك بو رقيبة.

 

وقد سارعت المنظمات الحقوقية الأجنبية إلى الترحيب بالخطوة التونسية بالرغم من تأخر الشروع فيها،فأصدرت منظمة العفو الدولية "أمنستي" بيانًا، اعتبرت فيه تجربة المصالحة الجارية في تونس «فرصة تاريخية لوضع حد للإفلات من العقاب عن الجرائم الماضية، وانتهاكات الحقوق الإنسانية»، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن تقليد الإفلات من العقاب ما زال يطغى على الواقع على الرغم من التقدم الملحوظ في هذا المجال بتونس.وهي تعني بذلك ما جرى من مصالحة غير مشروعة مع رموز الفساد الإداري والمالي في العهد البائد، والذي أصر السبسي على تمرير قانون يشرعن هذا الفساد الأخلاقي.

 

تجربة جنوب إفريقيا
من أشهر تجارب المصالحة الوطنية في العصر الحديث تجربة جنوب إفريقيا،التي بدأت تجربة "العدالة الانتقالية" في سياق التحضير لنهاية نظام التمييز العنصري، وأخذت شكل محاكمات شعبية أطلق عليها لجان الحقيقة والمصالحة، عُهد إليها بإماطة اللثام عن التجاوزات والجرائم وإنصاف الضحايا وصولًا إلى تسوية غير جزائية للملفات العالقة.

 

 في عام 1995، قرر البرلمان  تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي أصدرت في العام 1998 تقريرًا تضمّن شهادات أكثر من 22,000 ضحيّة وشاهد، حيث جرى الإدلاء بألفي شهادة في جلسات استماع علنية.

 

لكنّ معظم الجهود التي بُذلت لتحقيق المحاسبة عن الجرائم المرتكبة خلال حكم التمييز العنصري باءت بالفشل فقد أجاز قانون لجنة الحقيقة والمصالحة عرضًا مثيرًا للجدل "العفو من أجل الحقيقة" لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الذين رغبوا بالاعتراف. وتمت عمليات العفو الرئاسية الخاصّة بالرئيس السابق ثابومبيكي – التي اعتُبرت وسيلة لحلّ "العمل الناقص وغير المنجز للجنة الحقيقة والمصالحة" – بموجب محاكمات سرية تمت في غياب الضحايا ومن دون أي تمثيل لهم. وتضمنت  تعديلات لاحقة من أجل "عفو عام غير نزيه"، مكّنت مرتكبي الجرائم في زمن التمييز العنصري، ممّن لم يتقدّموا بطلبات للحصول على عفو لجنة الحقيقة والمصالحة، مكَّنتهم من الإفلات من العقاب.