30 ربيع الأول 1438

السؤال

فسر الطاهر ابن عاشور آيات خلق السماوات السبع بأنها الكواكب السبع السيارة التي يشاهدها الناس، وذلك في آية 29من سورة البقرة، وكذلك آية 17 من سورة المؤمنون، بأنها طرائق سير الكواكب السبعة، والذي ذكره ابن جرير خلاف ذلك من كونها سماوات سبع كل واحدة فوق الأخرى، كما في حديث الإسراء والمعراج في استفتاح كل سماء والصعود إليها، وهذا القول الذي اعتمده ابن عاشور لم أرَ من السلف من ذكره، غير أن ابن جزي الكلبي والفخر الرازي ذكروه فيما ذكروه من الأقوال.

    السؤال: هل تفسير ابن عاشور للسماوات السبع وجهة من اللغة أو الشرع أو قول للسلف؟ بارك الله فيكم.

أجاب عنها:
عبد الرحمن البراك

الجواب

 

 ج: الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فقد ورد في القرآن ذكر السماوات السبع في تسعة مواضع في ثمان سور، وهي البقرة والإسراء والمؤمنون ـ في موضعين منها ـ وفصلت والطلاق والملك ونوح والنبأ، ووصفت السماوات في بعض المواضع بأنها طباق، أي: بعضها فوق بعض، كما في سورتي الملك ونوح، وأنها شِداد، كما في سورة النبأ، ووصفت بالانشقاق والانفطار والطيِّ، وذكرت مقرونة بالكواكب والنجوم في قوله سبحانه: (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)، وقوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ)، وهذا يدل على الفرق بين السماوات وبين الكواكب والنجوم، ووصفُ السماء بالانفطار والانشقاق يدل على أن السماء جسم كثيف، بل صُلب، ووَصف السماوات بالطباق يدل على أن بعضها فوق بعض، وأنها متمايزة، وجاء في حديث الإسراء والمعراج ما يدل على أن السماوات سبع، وذُكرت السماوات في هذا الحديث مرتبة ابتداء من السماء الدنيا ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة.

     وأما النجوم فقد أخبر الله أن من حكمة خلقها أن تكون زينة للسماء الدنيا؛ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)، ثم يقال: هذه النجوم والشمس والقمر، هل هي دون السماء الدنيا أو داخل السماوات؟ نقول: ظاهر النصوص أن الشمس والقمر في داخل السماء، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا)، وقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، وذكر علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم أن القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة، وأن ما يعرف بالكواكب السبعة هي تابعة للسماوات السبع، والكواكبُ السبعة هي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزُحل، وفي بعض عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية ما يدل على أنه قد يعبر بالأفلاك عن السماوات، ومن ذلك قوله في العقيدة التدمرية: "وإن قُدِّر أن المراد بالسماء الأفلاك ـ يعني في قوله تعالى: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء) ـ  كان المراد أنه عليها"اهـ، ويكثر ذلك في كلامه رحمه الله ـ أعني إطلاق الأفلاك على السماوات ـ إذا تكلم عن الفلاسفة وقولهم بقدم العالم، كأن يقول: وهم القائلون بقدم الأفلاك، أوصدور الأفلاك عن العلة الأولى.

     ولم يأت في القرآن الإخبار بأن النجوم في السماء، إنما فيه الإخبار عن تزيين السماء بها، وتسخيرها للاهتداء بها، ومنها الشهب التي ترمى بها الشياطين، قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ)، وقال سبحانه: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ)، وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، وقال: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، ومما نبه عليه القرآن كثيرا ما في الشمس والقمر والنجوم من الدلالات على ربوبيته تعالى وإلاهيته، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

    هذا؛ وأما زعم ابن عاشور رحمه الله أن السماوات السبع هي الكواكب السبعة فلا يعوَّل عليه لما يأتي:

أولا: أنه خلاف ظاهر القرآن؛ فإن القرآن دل على الفرق بين السماوات والكواكب والنجوم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك بأدلته.

ثانيا: أنه خلاف ظاهر كلام السلف من المفسرين وغيرهم.

ثالثا: أن ابن عاشور رحمه الله من المطلعين على علم الهيئة الحديثة، وأكثرُ الدارسين لعلم الهيئة الحديثة مقتنعون بها، بل معظمون لها؛ فآل بهم الأمر إلى تفسير القرآن بما يتفق معها في مواضع كثيرة من القرآن، وهذا ما يظهر من منهج ابن عاشور في تفسيره، وكثيرا ما يصرح بعلم الهيئة، ويردُّ ما يقرره إليها، ومثله لا يعتمد على كلامه في مثل هذه المسائل، مع جلالة قدرته وسعة علمه رحمه الله، فالواجب اعتقاد ظاهر القرآن، وما دل عليه كلام السلف، ففي ذلك العصمة والنجاة، ونقول كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله.

    كما نوصي بعدم الخوض في نظريات علم الهيئة الحديثة؛ فإنه من جنس علم الكلام الذي حذر منه السلف، وهو أقرب إلى أن يورث الحيرة والقلق من أن يورث توحيدا ويقينا (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)، والله أعلم. أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البراك في ضحى الجمعة الرابع والعشرين من ربيع الأول 1438ه.