الحجاب بأوروبا وذوو القربى
15 شعبان 1438
أمير سعيد

"إذا كانت دولة كفرنسا مثلاً تريد سن قوانين تتعارض مع الحجاب؛ فهذا حقهم، هذا حقهم، هذا حقهم"، احتاج وزير الداخلية الفرنسي نيكولاي ساركوزي إلى أن يحزم حقيبته مسافراً إلى الأزهر في العام 2003، كي ينتزع هذه العبارة البائسة من "شيخ الأزهر" د.محمد سيد طنطاوي، تعليقاً على قرار فرنسي بمنع الحجاب في الأماكن العامة، فتح الطريق من بعدها لسلسة لم تنته في معظم الدول الأوروبية لتقصد الشعائر الدينية الإسلامية وحدها لاسيما حجاب المرأة المسلمة، لكن أوروبا لم تعد تحتاج مثل هذه الزيارات اليوم؛ فلقد خرج سهم تقليص حقوق المسلمين في أوروبا من قوسه، وانطلق مستهدفاً ثوابت المسلمين وشعائرهم، وأمست أوروبا وهي ماضية بطريقها لا تبالي بفتوى أو تصريح من شخصيات يفترض أنها مدعوة للدفاع عن حقوق المسلمين والمسلمات وتبني حقوقهم ومطالبهم لا أنها قائمة بوظيفة امتصاص غضب المسلمين حيال انتزاع حقوقهم الدينية في أوروبا، وتبيان سبل الترخص في ترك واجبات دينهم وشعائرهم عند الاضطرار أو حتى الحاجة!

 

تصدر محكمة العدل الأوروبية حكماً يقضي بإتاحة حظر المؤسسات للحجاب على موظفاتها وإلزام الموظفات المسلمات بهذا أو يفقدن وظائفهن؛ فيطلب ذوي القربي منهن لا أن يتركن عملهن فحسب بل يتركن بلادهن ويتخلين عن جنسيتهن وينسحبن من معركة الحجاب في أوروبا برمتها! لكن من المؤسف أن مثل هذه المطالبات لم تعد تحفل بها النظم الأوروبية حقيقة إلا ذرا للرماد في عيون المسلمات حين انتقاص حقوقهن الشخصية والدينية؛ فلقد تجاوزت أوروبا كل هذا ولم تعد تلقي بالاً بفتوى أو تصريح؛ فاحتفاء ساركوزي بفتوى طنطاوي وسفره خصيصاً لانتزاعها لم يعد في أجندة أي حكومة أوروبية؛ فلقد بات المسلمون من الضعف بحيث اجترأ عليهم الغرب وأصبح انتزاع حقوقهم كاملة مسألة وقتية تمضي في طريقها بالتدريج دون ضجيج يذكر.

 

لن نمسك بنهاية الخيط، بل بطرفه الأول: ولندع المشهد يبدو أكثر وضوحاً: بغض النظر عن تلاومنا الذاتي حول بعض التصريحات هنا أو هناك، إلا أننا حين نحلل ما نراه فلن نجد إلا أمة إسلامية قد فقدت مفاتيح أبواب السياسة والتأثير في العالم. إن أوروبا تسير بطريق محاكم التفتيش التي كان أقل عذابها على الموريسكيات (من أعلنّ التنصر، وأخفين إسلامهن خوفاً من بطش رجال الكنيسة) إلزامهن بخلع الحجاب، والتي أفتى بعض الشيوخ حينها لهن بفعل ذلك حفاظاً على شرفهن وعفتهن. هذا هو أول الخيط.

 

إنه حين تفقد أدوات التأثير لهذه الأمة، وحين يغيب من يدافع عنها ويعلي من قيمة أبنائها، ويدافع عن شرف نسائها؛ فإن فتاوى الاضطرار والحاجة تبدأ بالظهور إيذاناً بدخول المسلمين مرحلة الضعف والهوان. ليست العبرة هنا ما إذا كانت هذه الفتوى أو هذا التصريح ملغوماً أم اضطرارياً دفعت إليه الحاجة، هذا مجال نقاشه واضح ومفهوم ويمكن التمييز فيه عند كل عاقل بين هذا وذاك. نعم قد تقوي فتوى ملغومة ظهر غير المسلم وتوهن ظهر مسلم، أو تعكس أخرى العكس، إلا أن أصل القصة ليست عند هذه المحطة الأخيرة، إنها عند البداية، وهي فقدان أدوات التأثير وذهاب ريح معظم المؤسسات الإسلامية المفترض بها أن تنهض وتهب لنصرة قضايا المسلمين.

 

إننا معنيون جميعاً بإعادة تمكين الإسلام، بناء قلاعه، ومد جسوره، والتنقيب عن مكامن قوة المسلمين لتفعيلها، والتفتيش على نقاط ضعف أعدائه للضغط عليها بكل طريق مشروع؛ فالمسلمون في أوروبا هم سفراء الإسلام وقوته الصاعدة وذخيرته المدخرة، ولا ينبغي أبداً الاستسلام للتفريط بها عند كل نازلة، وتصديرها أمام كل ريح عاصفة.

 

ما يتعين على أولي النهى والأحلام أن يشقوا طريقاً منيراً للمسلمين في أوروبا – وفي غيرها – لا يتركهم نهباً لطموحات متطرفي العلمانية الأوروبية وكهنة كنائسها الصليبية؛ فما يرومونه ليس حجاباً يترك، ولا مكبر صوت يصمت، فحسب، إن أطماعهم تطابق حدود القشتاليين ومراسيمهم ومحاكم تفتيشهم الرعيبة.. لا تقولوا إنها مبالغة؛ فمحاكم التفتيش لم تنصب يوم سقوط غرناطة، وإجراءات محو الإسلام من الأندلس لم تصدر دفعة واحدة وإنما تدرجت لعشرات السنين.. لا تقولوا إنها مبالغة؛ فمن يطالع حياة المسلمين في أوروبا قبل عقود لم يكن ليتوقع هذا الانحدار، وهذا الانحشار في زوايا التضييق المتدرج.. إنه لم يكن ليحصل لولا ذهاب ريحنا، لم يكن ليحدث وقت المعتصم أو زمان العثمانيين.. لتكن صحوة أو لا نكون.