في نور آية كريمة.. "لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة"
11 رمضان 1440
أمير سعيد

"كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ"
هذه الآية العظيمة تضع قاعدة مضطردة تنسحب على معظم الفاسقين، الذين يعادون المؤمنين إذا ما تمكنوا منهم أو عجزوا عن ذلك.

 

"كيف" هو استفهام استنكاري أن يكون للمؤمنين أماناً لهؤلاء وهم على هذه الحال، والفعل محذوف، قدره أبو البقاء بقوله: "كيف تطمئنون إليهم"، قاله محمد بن يوسف الأندلسي.
وقال العز بن عبدالسلام في تفسيره: "يظهروا" أي "يقووا عليكم بالظفر".   

ومعنى "لا يرقبوا لا يوفوا ولا يراعوا"، كما قال الطاهر بن عاشور، والترقب هو الانتظار بحذر، والمقصود أنهم لا يبالوا وهم يفعلون ذلك، لا يجدون حرجاً، ولا يحذرون من شيء، ولا يردعهم رادع.

 

و"الإل"، قال عنه ابن عاشور إنه اسم يشتمل على معان ثلاثة وهي: "العهد والعقد، والحلف، والقرابة"، ويطلق أيضاً على النسب. ويقول سعيد بن جبير إنه "الله"، وجمع محمد رشيد رضا بين هذا وذاك بأنهم لا يرقبون في الله قرابة ولا عهداً.."، واختار ابن جني معنى لافتاً، وهو أنه "يجوز أن يكون مأخوذا من آل يئول إذا ساس (...) أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة". و"الذمة" العهد، ويقول القرطبي هي "الأمان"، قال الطاهر بن عاشور: "الذمة ما يمت به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار مما يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى". ويقول الأندلسي: "من رأى أن الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان".

 

"يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم"،  قال الشعراوي: "أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين؛ لأنها ليست الحقيقة، بل هو خداع ونفاق؛ فهم يقولون القول الحسن، ويقابلونك بوجه بشوش وألفاظ ناعمة، لكن قلوبهم مليئة بالحقد عليكم أيها المسلمون بحيث إذا تمكنوا منكم تظهر مشاعرهم الحقيقية من البغض الشديد والعداوة، ولا يرقبون فيكم إلاّ ولا ذمّة"، وقال الزحيلي في المنير: "وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، وتبيان أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد، لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسوله، ولأنهم إن تغلبوا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا، ولا يراعوا فيهم إلّا ولا ذمة أي حلفا وعهدا".

 

"وأكثرهم فاسقون"، والفسق على معناه في أصل اللغة وهو الخروج والانفصال؛ لأنهم انفصلوا عن المواثيق والعهود والقرابة..الخ فكان أقرب وصف لائق بهم هو الفسق.

 

والله ينبه أن الأصل في أعداء المسلمين الفسق، والانسلاخ من أي رادع يمكن أن يحدهم ويضبط عداوتهم وحروبهم، "لأن منهم من قضى الله له بالإيمان، وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض"، كما يقول بن يوسف، بل لقد اختار ابن عطية والكرماني أن "أكثرهم" أي كلهم.

 

والحق، أنه برغم وضوح هذه الآية التي تبين أن أعداء الإسلام ينسلخون من كل رادع إذا ظفروا بالمسلمين، وأنهم يكتفون بالكلام المعسول في هذه الحالة التي لا يظفرون بها، أو في عصرنا إذا ما أرادوا خداع الشعوب المسلمة، مثلما تفعل الدول الكبرى ومنظماتها الدولية، إلا أن كثيرين يتعجبون إذا فتك هؤلاء بالمسلمين في أي حرب وعدوان! مع أن هذا هو الأصل الذي قرره الله سبحانه، كقاعدة عامة صالحة لكل زمان ومكان، وجاءت كل الأحداث على مر التاريخ لتؤكدها بما لا يدع لمستريب شك؛ فكل استسلام للمسلمين في كل بلد أو حاضرة أعقبته مجازر وإجرام منفلت من كل عقال، حتى لو حصل في الزمان الذي يلبس فيه المجرمون الياقات البيضاء ويتجملون بأفضل العبارات الدبلوماسية الدقيقة. ويحصل والطرف الآخر (المسلمون) يتدثرون بالإل، أو بالسياسة وفقاً لتفسير ابن جني، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع في معادلات القوة الباطشة. رغم وضوح الآية، وانكشاف الأعداء من شرق الكرة الأرضية لغربها، وارتكابهم جرائم بشعة بحق المسلمين طوال قرون، ولم تنقطع حتى كتابة هذه السطور، إلا أنه لم يزل من المسلمين من يتصور بسذاجة أنهم إن يظهروا وقد ظهروا، سيرقبون مواثيق دولية وذمماً وعهوداً.. هؤلاء تخاطبهم الآية: "كيف؟" وخلفها علامات التعجب.