أصول أحكام صيام رمضان
19 رمضان 1438
أ. د. عبد الله الزبير عبد الرحمن

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فهذا مقال مستل من كتاب سؤالات للصائمين للمؤلف - حفظه الله - وقد أذن لنا مشكوراً بنشره. وجاء فيه:

هناك أصول شرعية حاكمة لفقه الصيام، لا سيما صيام شهر رمضان، لا بد من مراعاتها والتنبّه لها عند إفتاء صائم أو مريد صوم، ومن أهمها، ما يلي:

 

الأصل الأول: صيام رمضان مبني على التخفيف:

إن المتدبر لكتاب الله عز وجل، والتالي لآياته الكريمة ليقف على مراد الشارع في تشريع صيام رمضان، حيث يتلو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].

 

وهذا كما قال العلماء، أراد الله عز وجل أن يخفف عن الأمة المؤمنة وطأة التكليف بصيام شهر رمضان وذكر ابن عاشور في تفسيره أن التشبيه في قوله {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} له أغراض ثلاثة:

 

الغرض الأول: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كان قبل المسلمين وشرعها للمسلمين وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها.

 

الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم.

 

الغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة(1)؛ كما أن خطاب التكليف والإيجاب لصيام رمضان أخف في توجيهه وإخراجه من خطاب إيجاب الشعائر الأخرى وفرائض الإسلام، فإن الأوامر الملزمة بالصلاة والزكاة والحج اتسمت بصفتين:

 

الصفة الأولى: المباشرة:

فكل واحد من هذه العبادات العينية يأتي خطاب التكليف بها موجهاً توجيهاً مباشراً:
ففي إيجاب الصلاة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة:43]، وفي إيجاب الزكاة قال تعالى: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وفي إيجاب الحج قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} [البقرة:196].
أما في إيجاب الصوم فقد جاء الخطاب بصيغة غير مباشرة يربط بين الفرض وبين إمكان تحقيقه، إذ فُرض على أمم من قبلنا فصاموا.

 

الصفة الثانية: الإلزام بالتكليف والمكلفين:

فإن الصلاة كما جاء خطاب الإلزام مباشراً؛ جاء أيضاً الإلزام بها ولو من غير المخاطب المكلف وكذلك الزكاة. لذلك يتعلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من مواردهما بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبالنهي عن التفريط فيهما، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]، وإلزام الغير لفرضية الصلاة والزكاة قائم ولو على يد الدولة كما في شأن الزكاة من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].

وكل ذلك خلا منه فرض الصيام، فجاء إيجاب صيام رمضان أخف من إيجاب غيره من العبادات.

 

إذاً: الأصل الأول الذي بُنيَت عليه تشريعات وأحكام صيام شهر رمضان هو: تخفيف الوطأة على المكلفين. وتخفيف الوطأة يقتضي التيسير على الصائمين ومريدي الصيام، برفع الحرج ونفي العنت، ودرء المشقة عنهم لأن الله تعالى مريد في أحكامه التيسير وقد قال في شأن أحكام صيام خاصة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. وهذا يعني وجوب موافقة المفتين في سؤالات الصائمين لمراد الله عز وجل بتحقيق اليسر في الصيام على الناس والتيسير عليهم في أحكامه، فلا نشدد عليهم بدعوى الاحتياط، ولا نلزمهم ما لم يلزمهم الشرع دفعاً للشك، والأوجب التخفيف عنهم دفعاً للعنت ورفعاً للحرج.

 

الأصل الثاني: صيام رمضان مبني على التيقن لا الشك:

لما تبين أن شعيرة صيام رمضان أخف من الشعائر الأخرى، كان الأصل الذي يليق بشعيرة الصيام أن يُعتمد اليقين وأن يُلغى الشك.

 

فمن شكَّ في بلوغه التكليف لا يجب عليه صيام، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان؛ فالدخول في التكليف يجب أن يكون على يقين.

 

ومن شكَّ في طلوع الفجر لا يجب عليه الإمساك، وجاز له الأكل والشرب والجماع لأن الله تعالى جعل دليل الإمساك التبيّن، والتبيّن يقتضي التيقن وقد قال تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187].

 

وكان هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: "لا يمنعنكم أذان بلال من السحور، ولا الصبح المستطير ولكن الصبح المستطيل في الأفق"(2).

 

وكان هذا هو منهج الصحابة رضوان الله عليهم:

جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن السحور، فقال له ابن عباس: "كُلْ ما شككت حتى لا تشك".

 

ودخل رجلان على أبي بكر وهو يتسحّر، فقال أحدهما: قد طلع الفجر، وقال الآخر: لم يطلع بعد. فقال أبو بكر – أي لنفسه – كُلْ قد اختلفا.

 

وقال عمر: "إذا شكَّ رجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا".

 

قال مكحول: رأيت ابن عمر أخذ دلواً من زمزم فقال لرجلين: أطلع الفجر؟ فقال أحدهما: لا، وقال الآخر: نعم، فشرب ابن عمر.

 

وهو ذات منهج التابعين لهم بإحسان:

قال رجل للحسن البصري: أتسحر وأمتري في الصبح؟ فقال له الحسن: "كُلْ ما امتريت إنه والله ليس بالصبح خفاء".
وقال محمد بن سيرين: "وضعت الإناء على يدي فجعلت أنظر حتى طلع الفجر"(3).

 

وهذا الأصل حكاه ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم فقد قال في الدخول والخروج من رمضان "الأصل أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، كما لا يقضى بخروج رمضان إلا بيقين"(4).

 

وعلى هذا: فليس الاحتياط مطلوباً في قضايا الصيام ومسائله لا للصائم ولا للعالم المفتي.

 

الأصل الثالث: ما يحقق الصيام أولى مما يفسده:

فالناظر في كتب الفقه يجد أن الفقهاء – بعد القرون الأولى – بالغوا في الاحتياط، فصاروا يحكمون على فساد الصيام بأدنى شبهة، وصاروا يزيلون المتيقن بالمشكوك فأكثروا من المفطرات والمفسدات للصيام حتى أوصلها الحنفية إلى ستين مفطراً لصيام رمضان، وقريب من هذا بأقل أو أكثر غيرهم من المالكية والشافعية والحنابلة.

 

ولكننا نجد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاواه على خلاف ذلك، كما نجد أن منهج الصحابة رضوان الله عليهم كذلك كانوا يحققون الصيام أكثر من إفساده بأدنى شبهة، كانوا يضيقون المفطرات والمبطلات ويتوسعون في المصححات المبقيات للصيام، ففي منهج النبوة:

من أصبح جُنباً صحّ صومه وبقي.
ومن قبّل امرأته صحّ صومه وبقي.
ومن غلبه القيء وذرعه صحّ صومه وبقي.
ومن أفطر معتقداً غروب الشمس فتبين بقاء النهار صحّ صومه وبقي.
ومن أكل أو جامع معتقداً بقاء الليل فبان له طلوع الفجر صحّ صومه وبقي.
ومن أكل أو شرب ناسياً صحّ صومه وبقي.
ومن تمضمض لم يفسد صومه.
ومن اكتحل لم يفطر.

 

كل هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدل دلالة واضحة على منهج النبوة المعصوم في إبقاء الصيام أكثر من إفساده وإبطاله. وعلى هذا فالصحيح الموافق لسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم هو تضييق المفطرات وتوسيع المصححات للصوم.

 

وتحقيق هذا الأصل يكون بإقرار وإعمال القاعدة التي ذكرها العلامة الحافظ ابن عبد البر حيث قال: "الأصل أن الصائم لا يقضى بأنه مفطر إذا سلم من الأكل والشرب والجماع إلا بسنة لا معارض لها"(5).

 

وبهذا نضيّق المفطرات والمبطلات والمفسدات للصوم، ونوسّع المصححات والمبقيات والمحققات له؛ لأن الذي يفتي أو يحكم ببطلان صوم صائم أو فساد يومه يحتاج إلى سنة قوية صحيحة صريحة لا معارض لها، فلا ينفعه القياس، ولا الاحتياط، ولا الذريعة، ولا غيرها مما يمكن التعلق به لإبطال صوم أو إفساد صوم أو فرض قضاء أو كفارة. وهذا ما أيّده شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي ابن رشد رحمهما الله تعالى. فابن تيمية يرى أنه لا يجوز إفساد الصوم بالأقيسة "لأن القياس وإن كان حجة، إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص، وإن دلَّ القياس الصحيح على مثل ما دلَّ عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب. وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه قياس فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه فعلمنا أنها ليست مفطرة" ا.هـ(6).

 

ويقول ابن رشد: "إيجاب القضاء بالقياس فيه ضعف، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد"(7).

 

وعليه: فالصحيح الواجب إن شاء الله أن تتوافق الفتيا في أقضية الصيام مع هذه الأصول والمقاصد، والله تعالى الموفق والمسدّد والمعين.

 

________________________________

(1)    تفسير التحرير والتنوير 1/156-157.
(2)    أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الصيام ص27، وأصله في البخاري في كتاب الصيام.
(3)    راجع كل هذا في المصنف لابن أبي شيبة 3/25-26.
(4)    الاستذكار 10/19.
(5)    الاستذكار 10/125.
(6)    مجموع الفتاوى 25/236.
(7)    بداية المجتهد 2/182.