في نور آية كريمة.. "والشعراء يتبعهم الغاوون"
20 رمضان 1440
أمير سعيد

"وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ" (224) الشعراء

في الآية، وفي موضعها وسياقها ما يلفت بشدة إلى الفرق بين الوحي المنزل، والدعاية الكاذبة المتمثلة بالشعر التي ينجرف لاتباعها كل غاوٍ ضالٍ. ففي حين وصف الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت الآيات تبين طبيعة هؤلاء الشعراء الذين يناقضون صورة الوحي، البعيدة كل البعد عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

فلقد ادعى المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاهن أو شاعر، فجاءت الآيات لتقول: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون"، ثم أزالت وهماً ترسخ لدى الكفار بأن لكل شاعر شيطاناً يوحي إليه شعراً، يقول الطاهر بن عاشور: "كان مما حوته كنانة بهتان المشركين أن قالوا في النبيء صلى الله عليه وسلم : هو شاعر، فلما نثلت الآيات السابقة سهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم: هو كاهن، لم يبق إلا إبطال قولهم: هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطانا يملي عليه الشعر وربما سموه الرئي، فناسب أن يقارن بين تزييف قولهم في القرآن: هو شعر (...) وبين قولهم: هو قول كاهن".

يقول السعدي: " هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء، ووصفهم الثابت، فإنهم يتبعهم الغاوون عن طريق الهدى، المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون، وتجد أتباعهم كل غاو ضال فاسد." والشعراء جمع شاعر، قال ابن عباس: "هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس. وقيل الغاوون هم الزائلون عن الحق، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك."، قاله القرطبي. والغاوون جمع الغاوي، يقول ابن عثيمين: "وهو كل من خالف طريق الرشد، ومعنى يتبعهم الغاوون أي يأخذون بهم بأقوالهم وشعرهم من المدح والذم والرثاء والهجاء وغير ذلك مما يكون مخالفاً للشرع من أقوال الشعراء؛ فتجد أهل الغواية يتبعون هؤلاء ويعتدون بأقوالهم ويسبون الناس بما يقولون من هذه الأشعار. ولكن هذا ليس عاماً لكل شاعر ولهذا قال الله تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)"

وذكر مقاتل أسماءهم، فقال: منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومشافع بن عبد مناف، وأبو عزة بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي. وأضاف بعضهم أم جميل زوجة أبي لهب وغيرها. والآية عامة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً"، قال القرطبي: " وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر، ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول".

أما في حسن الشعر الذي استثنى القرآن قائليه في الآيات التالية للآية المذكورة؛ فمثله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم.

 

لقد كان مما صرف عقول المشركين إلى اتهام النبي صلى الله عليه بأنه شاعر، تأثير الشعر الطاغي على حالتهم الثقافية والإعلامية، وتمثيله لآلة دعاية وتسويق هائلة لا يضاهيها النثر. وكان هذا الشعر بحالته الجاهلية يطفح بالزيف والبطلان والأكاذيب والمبالغات وتسويق الكفر وسيء الأخلاق. وكان يلقى على الدوام رواجاً لدى الغاوين، أولئك الذين لهم على مر العصور قابلية عالية لتقبل هذا الزيف الإعلامي والطيران به إلى كل جو وأرض. وكان من قابليتهم إدراك أن معظم هذا الشعر يجافي الحقيقة والواقع ويغوص في بحور الخيال والأوهام، ولهذا كان يلمزون به ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم رغم تقديرهم للشعر ظاهرياً. كان إعلام العصر، ككل إعلام، يطغى عليه الزيف والبهتان، وتتلقاه النفوس الضعيفة بالقبول، ولو كانت تؤمن في قرارة نفسها بزيفه، لكن هواها أشربه بعد موافقته، فخضعت له ولأكاذيبه راغمة.

 

إن تلك النفوس الخربة لا تُشرَب هذا الزيف لأنها مغيبة عن الحق فحسب، بل لأنها قد صارت هي ذاتها بؤرة للإغواء تستريح نفوسها له ولكل زيف يلقى إليها. لقد كان إعلام الباطل دوماً قوياً، واستدعى مناهضة قوية قام بها شعراء الإسلام الأوائل ينافحون عن هذا الدين حتى تفوقوا في شعرهم على أهل الزيف والبهتان، وحتى لكان في تفوقهم أحياناً تأثير في إيمان بعض الوفود، بل واحد من أكبرها، وهو وفد بني تميم، الذين جاءوا بخطيبهم وشاعرهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم أمامهم ثابت بن قيس خطيباً وحسان بن ثابت شاعراً، فقال التيميون: "وربكم أن خطيب القوم أخطب من خطيبنا وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا وما أنتصفنا ولا قاربنا." (الاستيعاب في معرفة الأصحاب).

 

لقد تطورت الغواية عبر الإعلام من الشعر إلى وسائل عديدة في هذا الأوان، وتنوعت في أدواتها الكثيرة، لكن مع هذا لم يخبُ الشعر كأداة من أدوات الغواية، وتغنى به غواة بأغانٍ تحمل الخنا والخلاعة والفسوق خصصت لأجلها قنوات كاملة من أجل أن ينجرف إليها من في نفوسهم مرض، ويتبعها الغاوون.. في كل واد.