الأمة إذ تودع عَلَمَاً من أعلَامها
10 شوال 1438
تقرير إخباري - محمد الشاعر

هي سنة الله تعالى في خلقه وقدره المحتوم الذي لا مفر منه ولا مرد له , قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ....} آل عمران/185 وقال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } الرحمن/26 , وإذا كان حبيب الله وخاتم أنبيائه ورسله قد وقع عليه قضاء الله تعالى وقدره وخاطبه ربه سبحانه وتعالى في محكم تنزيله بقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } الزمر/30 .....فمن باب أولى أن ينزل الموت بساحة علماء الأمة وأعلامها وأن يطالهم ما طال أنبياء الله ورسله وصفوة خلقه .

 

 

ليست حقيقة بدهية حتمية تعرض أعلام الأمة وعلمائها للموت - مثلهم في ذلك مثل سائر خلق الله تعالى - هي ما يحزن أبناء الأمة ويثير أشجانهم و يحرك ألسنتهم وأقلامهم لرثائهم ونعيهم والتحسر على فقدهم , بل المأسوف عليه هو ذلك العلم الذي خسرته الأمة بموت فقيه هنا وعالم ومفكر هناك , ورحيل داعية أوصاحب علم كان يضيء لأبناء الأمة بنور علمه طريقهم وسط ظلمات من الجهل وطوفان من الفغلة عن الله وجبال من الشبهات التي لا يمكن أن يزيلها إلا علماء الأمة الأفذاذ وأعلامها الثقات .

 

 

من هنا كان وقع خبر وفاة عالم من علماء الأمة وأعلامها ثقيلا على النفوس ومحركا للأشجان في القلوب , فقد توفي أول أمس الأحد في عاصمة بلاد الحرمين الرياض عن عمر ناهز 90 عاما قضاها في العلم والبحث في الفكر الإسلامي العالم والمفكر السوري المعروف الدكتور "محمد أديب صالح" أستاذ ورئيس قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض سابقا , ورئيس تحرير مجلة "حضارة الإسلام" , و أستاذ ورئيس قسم القرآن والسنة بجامعة دمشق، وأستاذ أصول الفقه بكلية الحقوق فيها سابقا .

 

 

ونعت حفيدة العالم الجليل مريم صالح جدها قائلة : "لله ما أعطى ولله ما أخذ وإنا لله وإنا إليه راجعون.. انتقل إلى رحمة الله جدي الحبيب الشيخ الدكتور محمد أديب الصالح في مهجره في الرياض مع أذان ظهر اليوم الأحد " .

 

 

مولده ونسأته

ولد الشيخ الراحل الدكتور محمد أديب صالح عام 1926م في قطنا جنوب غرب دمشق، توفي والده وعمره ستة أشهر وعمر والدته 20 عاما وبضعة أشهر فقط فآثرت ابنها على نفسها وتفرغت لرعايته .

 

 

يقول الدكتور "صالح" عن والدته : هي السيدة أم أديب نظمية بنت أحمد الطحان، ولدت في دمشق عام 1906م، وعاشت في قطنا مع والدي الذي توفي وسنّها يومذاك عشرون عاماً وستة أشهر، وحرصاً منها على تربيتي دون سلطان لزوج جديد رفضت الزواج ثانية بعد أن خطبت غير مرة، وتفرّغت للعناية بي صابرة على لأواء الطريق مجاهدة تقية، همّها  –بعد استقامتها- أن ينشأ ولدها نشأة علمية صالحة، وكانت وفاتها في الرياض بعد تمريضها أياما وهي صابرة محتسبة عام 1403هـ وتم دفنها في البقيع بالمدينة المنورة إنفاذاً لما هو شبه الوصية.. ولقد أسعدني وزادني شرفاً، وهذا ما أملكه أن جعلت إهداء رسالتي للدكتوراه “تفسير النصوص” قولي هناك: “إلى الرائدة الأمينة على درب اليتم الطويل.. والتي ما زالت تتابع الطريق عطاء ووفاء ترجو بهما الله واليوم الآخر.. أمي ويعلي مقامها في الآخرين" .

 

 

طلبه للعلم

التزم منذ صغره بحلقات العلم على أيدي نخبة من العلماء الأفاضل وفي مقدمتهم الشيخ إبراهيم الغلاييني، مفتي قطنا، التي كانت لها أثر كبير في التهميد للقدرة على إمكان التعامل مع بعض من أمهات الكتب في الشريعة واللغة العربية، كما حفظ عدد لا بأس به من المتون في مختلف العلوم .

 

 

وبعد حصوله على الكفاءة الشرعية والكفاءة العامة، ثم الثانوية الشرعية، والثانوية العامة بدمشق بين سنتي 1944 و1946 م أوفدته وزارة المعارف إلى الجامعة الأزهرية حيث حصل على شهادة العالمية من الجامعة عام 1949م وعلى إجازة الحقوق من كلية الحقوق بجامعة دمشق عام 1950 م .

 

 

عمل مدرسا خمس سنوات أو تزيد في ثانويات ودور المعلمين بدمشق وحلب , ثم دخل كلية الشريعة بجامعة دمشق معيداً بمسابقة شرعية عام 1956 ـ 1957 م , وأوفد بعد ذلك من جامعة دمشق إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1959 م , حيث حصل على شهادة معهد الشريعة في كلية الحقوق بجامعة القاهرة (وهي مع رسائلها الموجزة بمثابة درجة الماجستير) عام 1961.

 

 

نال درجة الدكتوراه في الحقوق (الشريعة الإسلامية) من كلية الحقوق بجامعة القاهرة بمرتبة الشرف الأولى مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية، مع التوصية بطباعتها، وكان موضوع الرسالة: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي.. دراسة مقارنة.

 

 

عمله بالتدريس بالجامعات

عمل مدرسا في جامعات دمشق وعمان والرياض، وتخرج على يده الآلاف من الطلاب الجامعيين ومئات من أساتذة الجامعات في كل من سورية والأردن والمملكة العربية السعودية .

 

 

كانت تجربته الأولى في التدريس الجامعي في الفترة من 1964عام إلى 1969 م حيث عمل مدرساً بكلية الشريعة بجامعة دمشق وشارك بوضع المناهج مع تدريس مادة أصول الفقه في كلية الحقوق، ومواد علوم القرآن وعلوم الحديث والبلاغة النبوية في كلية الآداب بنفس الجامعة ، وتولى رئاسة قسم علوم القرآن والسنة بكلية الشريعة بجامعة دمشق، وقام بتدريس آيات الأحكام وأحاديث الأحكام وأصول الفقه بكلية الشريعة وأصول الفقه بكلية الحقوق.

 

 

وفي الفترة من عام 1970 إلى 1974 م عمل بالتدريس بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية محاضراً ثم رئيساً لقسم أصول الدين، وانتقل للعمل في المملكة العربية السعودية عام 1978 وعمل أستاذاً في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، وساهم في إنشاء قسم السنة وعلومها وتولى رئاسة القسم لمدة ثماني سنوات، وأسهم في أعمال المجلس العلمي عن طريق العضوية في عدد من الدورات، وأشرف على عدد وافر من رسائل الماجستير والدكتوراه في الكلية وناقش عدد وافر أيضاً من رسائل الماجستير والدكتوراه في مختلف جامعات المملكة وبعض البلاد العربية.

 

 

مناصب تقلدها ومؤتمرات شارك فيها

تولى إلقاء خطبة الجمعة في مسجد جامعة دمشق خلال الأعوام :1964 – 1969م، وهو مسجد كبير تشرف عليه كلية الشريعة وتؤمه أعداد كبيرة من الأساتذة والطلاب - من مختلف التخصصات - وكبار المثقفين، وقد كانت الخطابة فيه موجهة بحيث تكون صورة من صور التكامل العلمي والفكري مع العمل الجامعي في كليتي الشريعة والحقوق , كما تولى رئاسة تحرير مجلة "حضارة الإسلام" من عام 1964 وحتى عام 1981م، وهي مجلة محكمة كانت تصدر في دمشق .

 

 

تم اختيار الدكتور "صالح" في عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ عام 1977 م وحتى صدور نظام التعليم العالي، وشارك في تحكيم الإنتاج‏ العلمي وبحوث الترقية لأعضاء هيئة التدريس في عدد من الجامعات، والتحكيم في صلاحية نشر الكتب والبحوث في بعض المجلات المحكمة في المملكة وغيرها.

 

 

وشارك في عدد من المؤتمرات، مثل: مؤتمر السنة والسيرة، مؤتمر المنظمات الإسلامية، مؤتمر فقه الدعوة والدعاة، مؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات , كما شارك في النشاط العلمي والدعوي في عدد من دول الخليج العربي وبخاصة في شهر رمضان المبارك .

 

 

إنتاجه العلمي

للدكتور "صالح" العديد من المؤلفات والمطبوعات أبرزها : "تخريج الفروع على الأصول"،" تفسير النصوص في الفقه الإسلامي"، " لمحات في أصول الحديث" "مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط " ، "مع الجامع لأحكام القرآن منهج القرطبي ودراسة تحليلية لنصوص من تفسيره , "معالم في الغاية والمنهج" , "القصص في السيرة النبوية" , "على الطريق" وهي مجموعة مقالات فكرية وبحوث تتعلق بالعلوم الإسلامية ، "هكذا يعلم الربانيون" و"أدعياء الهيكل" وغيرها ......

 

 

نعي الدكتور "صالح"

نعى الكثير من دعاة وعلماء المملكة العربية السعودية والوطن العربي الشيخ الراحل كما نعته الكثير من الهيئات والمؤسسات الإسلامية الرسمية وفي مقدمتها رابطة العلماء السوريين وهيئة علماء المسلمين في العراق ذاكرين بعض مناقبه ومآثره وإنجازاته العلمية والدعوية.

 

 

رحم الله الشيخ الفقيه الأصولي الراحل وعوّض الأمة الإسلامية خلفا له . آمين .