لغتنا التي نهملها وتشكونا.. غربة لغة الوحْيَيْن في ديارها!!
6 ذو القعدة 1438
منذر الأسعد

كان أبو صالح يزور صديق عمره أبا سليمان عقب صلاة العصر،  يرشفان القهوة العربية ويمضغان حبات من التمر ..

 

نادى أبو سليمان سائقه الهندي وجرى بينهما الحوار الآتي:
-كومار إنتا في ياخذ عمتك حصة في ودي بيت أم مشاري دخل محدود..
=في معلوم عمي
-بعدين إنتا في يجي لازم جيب لبن مراعي من بقالة
=في معلوم عمي
-لازم إنتا في يأخذ موتر ورشة وقل لهم يضبطون وزن أذرعة
=هاضر عمي

 

غادر كومار،  فقال أبو صالح: ما شاء الله عليك يبو سليمان تقدر تتفاهم ويا ذا الهندي..
رشف أبو سليمان رشفة أخرى من فنجان القهوة ونقل حبة التمر إلى الجانب الأيسر من فكه ثم قال مفتخراً: والله يبو صالح وش نسوّي .. ترى اللي ما يعرف لغات في هالأيام يبتلش ههههههه
***

 

هزيمة نفسية
هذه النكتة المتداولة شعبياً في المجتمع السعودي،  تلخص محنة لغة الضاد في عقر دارها..

 

فنحن نضطر إلى التحدث بلغة مسخ لا هي عربية ولا هي أعجمية للتفاهم مع بسطاء الوافدين من خدمٍ وسائقين،  لكننا نكلم الغربي في- بلادنا- بلسانه فيقيم بيننا عشرات السنين من دون أن يضطر إلى تعلم لغتنا!!

 

ونذهب إلى بلاده فنتكلم بلسان القوم كذلك ..

 

والأسوأ من كل ذلك أننا نفرض على أبنائنا تلقي العلوم المختلفة في جامعاتنا بالأعجمية ( الإنكليزية في بلاد المشرق والفرنسية في بلاد المغرب) وذلك بذريعة أنها لغات البحث العلمي !! نفعل منذ مئة عام من دون أن يتقدم البحث العلمي عندنا قيد أنملة -لئلا نقول: بل إنه تقهقر!!-.

 

سوريا كانت البلد العربي الوحيد الذي "شذ" عن هذا التغريب.. والذي نهض بتعريب الطب في وقت مبكر ثلاثة من كبار الأطباء كانوا لغويين بارعين في الوقت نفسه.. قاموا بالفريضة نيابة عن أمة مهزومة من داخلها..

 

وانتشر الأطباء السوريون في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكونوا أقل مهارة في تخصصاتهم من أولئك الذين درسوا الطب بلغات الأعاجم!!
ومن الأوهام الشائعة أن بعضنا يظنون تلك المزية السورية ثمرة من ثمار العصابة الأسدية !! والحق أنها تمت واستقرت قبل نصف قرن من طغيان العائلة الكريهة

 

قضم مزدوج
من أعاجيب عرب العصر،  أنهم يؤازرون أعداء لغتهم سواء أكانوا يعلمون أم يجهلون..
فالعامية البشعة تنهش جسدها من جهة،  والأعجميات تنهش الجهة الأخرى..
ونكمل اغتيال أشرف لغة عرفها البشر، بإهمالها في التعليم ما قبل الجامعي ..

فنحن -في حدود علمي المتواضع- الأمة الوحيدة التي يتعلم أبناؤها لسانَها اثنتي عشرة سنة، لكنهم لا يتقنونها!!

 

وعندما يهتم بقايا المهتمين بهوية يجري وأدها بشدة،  تضيع الخيوط وسط الاتهامات المتباينة : الإشكال في المناهج- المعلمون غير مؤهلين- الطلاب لا يكترثون- السياسة العامة تقول للطالب بلسان الواقع: لا تهتم بهذه اللغة المتخلفة .. عليك بلغات الأجانب لكي تحصل على وظيفة مضمونة ولو كانت عامل مقسم هاتفي !!

 

ومن هذه المهزلة المبكية،  أنك تتصل لطلب أي خدمة – في أكثر بلاد العربان- فيأتيك الرد الأول بلغة الغرباء !! ثم يجيبك محدثك بالعربية إذا تبين له أنك لا تعرف لسان أحفاد شكسبير أو فولتير.. والأنكى من ذلك أنك لن تستطيع التفاهم معه أحياناً،  لأنه ليس عربياً !!

 

لقد مضى الزمن الذي يبذل الغازي الأجنبي جهوده ليقتل لغتنا عندنا،  فأصبحنا نؤدي المهمة بـ"كفاءة" لم يكن دهاة القوم من أمثال دنلوب يتخيلونها.
لستُ أرسم لوحة كئيبة لإثارة حزن أو جذب تعاطف .. ولا أبالغ -يشهد الله- فهذه هي معالم المشهد الذي يعتصر له القلب وأما النادر فلا يجوز بناء الأحكام عليه بالبداهة.

 

والسؤال الجارح: هل نستيقظ بعد كل هذا فنتدارك أنفسنا ؟
قد يقال: ما الذي نستطيع فعله أمام طوفان جارف،  ولسنا صانعي قرار في الشأن العام؟
وهذا سؤال يستحق البحث عن إجابات منطقية،  لعل الله سبحانه يأذن بعرضها ومناقشتها في مقال لاحق .