من صفحات تفكيرنا "الاستراتيجي البدائي"!
29 ذو القعدة 1438
أمير سعيد

نعم، هما ضدان لا يجتمعان، الاستراتيجية والبدائية، لكننا نجحنا في جمعهما معاً! لا أستثني كثيراً تنوعاتنا الفكرية المختلفة والمتضادة، وإن برز التعويل على فكر دون آخر، إذا ما كان إصلاحياً غيوراً أميناً على القيم والأخلاق والحضارة والتاريخ.

 

أبسط قواعد التفكير بعيد المدى، في عالم المستقبليات أن تضع لكل احتمال اعتباره، وألا تسفه رأياً يبدو بعيداً عن التوقع لأول وهلة إذا ما وجدت له بعض ما يؤيده ولو كانت نسبة تحققه لا تبدو عالية. بل إن الواقع يشهد أن التفكير خارج الأطر التقليدية هو الفارق الأبرز بين الفكر الارتيادي الريادي، والتقليدي الاعتيادي الذي يتقنه كل أحد.

 

وإذا ما قارننا ما فعلته مجلة "ذانيويوركر" من جمع أقوال وشهادات مؤرخين وخبراء و كتاب أمريكيين جميعها تحذر من أن أمريكا على شفا الوقوع في أتون "حرب أهلية" جديدة، وبين النمط الرجعي الذي نلمسه في نقاشاتنا الفكرية المتنوعة ترفض مثل هذا الأسلوب في التفكير لتبين لنا لماذا نتأخر استراتيجياً ويتقدم غيرنا كثيراً.

 

 

إن أبسط ما يمكن ما يرد به "عبقريونا" على أي مستشرف لأفق سياسي واجتماعي واقتصادي قادم أن هذا مستبعد جداً في ظل المعطيات التي بين أيديهم، وهذا في الحقيقة لا يجعل بينهم وبين "العامة" فرقاً كبيراً، فكلاهما لا يستشرف، كلاهما يتفاجأ بالقادم، كلاهما يفغر فاه مشدوهاً عند المصائب والأوابد. وهذا بدوره يجعل هذا "المفكر، المثقف، الخبير" المزعوم مجرد غاصب لمقعد المفكرين جائر على أترابه من "العامة" متعالٍ عليهم بلا أدنى مزية!

 

 دعونا نوضح أكثر، وبالمثال الأمريكي الذي جسدته المجلة، ففيه أن الكاتبة الأمريكية روبن رايت نقلت عن العسكري السابق والدبلوماسي الأمريكي "كيث ماينز" ،مخاوفه من أن بلاده على شفا حرب أهلية. الكاتبة قالت : إن ماينز الذي قضى مسيرته المهنية في إجراء أبحاثٍ عن حروب ٍأهلية في بلدان أخرى،عاد بعد 16 عامًا إلى بلاده "ليجد أن الظروف التي كان يراها تؤجج نزاعاتٍ في الدول الأخرى ظاهرة ٌ الآن في وطنه. وصارهذا هاجساً يطارده".

 

 

اللافت في مقال الكاتبة، ليس كونه مجرد توقع عارض يبدو خافت الصوت، لا، بل إن الخبير ماينز توقع أن الولايات المتحدة ستواجه خطر نشوب حرب أهلية بنسبة 60% في غضون فترةٍ تتراوح بين الأعوام العشرة والخمس عشرة المقبلة . وهذا رقم لا يمكن تجاهله إن صدر من مختصين، وكذا تراوحت توقعات خبراء آخرين بين 5% و95%، فيما بلغت نسبة الإجماع الواقعي 35%.

 

 

والحقيقة أن "خبراءنا" لو طرحت أمامهم مثل هذه التوقعات والنسب المستندة إلى معطيات معقولة دون أن تنسب إلى واضعيها الاستراتيجيين لقالوا أضغاث أحلام كخبراء العزيز! فيما الواقع يقول : إن ظهور مؤشرات ضعيفة عن حصول اضطراب ما في الولايات المتحدة هو جدير بأن يبحث بشيء من الجدية والاهتمام، لما يترتب عليه من تغير هائل في العالم سيفيد منه كل من يتهيأ له ويضع نفسه على الخارطة وفي معادلات التأثير، وأن استبعاد حصول هذا التغير مطلقاً ليس من الحكمة في شيء. الأمر ذاته ينسحب على كثير من المتغيرات الحاصلة في العالم على الأصعدة المختلفة، سياسية، واقتصادية، واجتماعية.. الخ

 

نحن في كثير من الأحيان نظن أن العالم من حولنا سيظل على حاله تماماً، ونرسم مستقبلنا في كل شيء، حتى على المستوى الشخصي على هذه الفرضية الساذجة؛ فتنشأ مشروعات لا مستقبل لها، ونقدم على أشياء لا طائل من ورائها، ونحجم عن خوض غمار مجالات لأنها في نظرنا مستبعدة جداً، مع أن أبجديات التفكير المستقبلي كانت لتقود إلى غير ما رسمناه، وخلاف ما رمناه.

 

إن كثيراً من "مفكرينا" و"روادنا" يستبعدون تغيرات هائلة في خرائط منطقتنا، والشواهد كانت تشير إلى شيء من هذا، ثم جاءت الأحداث تلو أخواتها لتؤكد ذلك، لكن كثيراً منا لم يستوعب هذه المتغيرات حتى بعد حصولها فضلاً عن توقعها والاستعداد لها.

 

وبالعودة إلى مثالنا؛ فالخبراء هؤلاء لم يتوقعوا حصول تغيرات هائلة في الولايات المتحدة من فراغ، فأول المعطيات التي ينظرون إليها بجدية ولا نكاد نراها ألبتة، هو اسم هذه "الولايات" التي هي كيانات لم تكن منسجمة فصيرتها الحرب "متحدة"، ثم تتوالى المعطيات في الاقتصاد الذي بوسعه أن يجمع عند الثراء ويفرق عن الفقر والحاجة، وفي الفوارق بين الولايات من الناحية الاقتصادية، وفي الفوارق الإثنية، والتنوع الثقافي والديني، وإلى توالد الأفكار المتناقضة، وإلى فشو العنف، وإلى توفر التقنيات المحفزة على النزاعات والصراعات أحياناً، وإلى طغيان المادية، وإلى صعود الحركات اليمينية وإلى اهتزاز النخبة وفسادها وتراجعها العقلي.. الخ

 

ومن يلمح ذلك بعين خبير يرمقه من بعيد، ويلحظ نموه واتساع شروخه شيئاً فشيئاً، فيبصر قادماً متغيراً، ولو بدا الحاضر مطمئناً للغافلين.

 

ولسنا بحاجة للاستدلال بتسارع وتيرة العنف، أو بصعود شخصيات غريبة الأطوار كالرئيس الأمريكي ترامب إلى سدة الحكم وإدارته لنبرهن على هذا التغير الذي أوشك أن يبدو للجميع بلا ستائر، لكننا بحاجة ملحة للنظر إلى واقعنا نحن، والتغيرات الهائلة فيه، المفضية إلى مستقبل لا يبدو طبيعياً ولا مستقراً للمنطقة. فكل راصد يمتلك مسحة من عقل وتفكير سيستنتج بسهولة مستقبلاً متوقعاً لمنطقة مقسمة ممزقة تفشو فيها الحروب والأمراض والنزاعات الخارجية والداخلية، وسيرى دولاً في الحاضر لن تكون بحدودها ونفوذها وقوتها كما هي عليه اليوم. وسيرى تغيرات أخلاقية وعقدية مفزعة. وعلى أولي النهي، كلهم، أن يتنادوا لوأد الفاجعة قبل نموها وتفاقمها. إن مقاعد المتفرجين المشدوهين لا تليق بالرواد المفكرين أبداً.