علّامة المغرب "محمد زحل" في ذمة الله
3 ذو الحجه 1438
د. زياد الشامي

لا تكاد الأمة تنتهي من عزاء أحد علمائها ودعاتها البارزين حتى تفتح مجلس عزاء جديد لـ عَلَم آخر من أعلامها ورمز جديد من رموز هويتها الإسلامية , فمنذ أيام فقدت الأمة المحدث المسند الشيخ "ظهير الدين المباركفوري" صاحب أعلى إسناد بصحيح مسلم , وقبله وخلال شهر واحد تقريبا خسرت الأمة ثلة من علمائها وكوكبة من رموزها , وها هي اليوم تودع قامة أخرى من قاماتها العلمية والدعوية بوفاة علامة المغرب الشيخ "محمد زحل" مساء  أمس الأبعاء عن عمر ناهز الــ 74 عاما .

 

 

يستطيع المتابع لسيرة من فقدتهم الأمة خلال الأسابيع الماضية أن يدرك الميزة التي تمتاز بها خير الأمم عن غيرها , فمع اختلاف جنسيات ولغات أؤلئك العلماء والدعاة إلا أن مصابها فيهم واحد لا يختلف بكون أحدهم عربي والآخر أعجمي , كما أن عزاءها في أحدهم كعزائها في الآخر لا يختلف أو يتفاوت إلا بتفاوت مقدار التقوى والعمل الصالح , ومقدار العلم الذي ورثوه والأثر الذي تركوه .

 

 

وكما عزى أبناء الأمة من قبل بوفاة الشيخ "المباركفوري" الهندي و تأثروا بفقد الفقيه الأصولي عبد الكريم اللاحم و الشيخ الفقيه عبد الله بن عبد العزيز الجبرين من بلاد الحرمين وعبروا عن حزنهم برحيل الأصولي الشامي الدكتور محمد أديب صالح وبأخويه العلامة اليمني محمد حسين فقيره والعلامة الصومالي شريف عبد النور شريف حسن آدم مقبول ....... ها هم يواسون أرحام الراحل والأمة جمعاء برحيل علامة المغرب ورئيس رابطة علمائها الشيخ محمد زحل .

 

 

أ.د. ناصر العمر، غرد معزيا برحيل الشيخ على حسابه على تويتر قائلا : توفي اليوم أحد علماء ودعاة #المغرب العلامة السلفي محمد زحل رحمه الله وجبر مصاب أهله وطلابه ومحبيه، وقد انتهى من تفسير القرآن كاملا عام(١٤٣٧)

 

 

 الشيخ محمد صالح المنجد قال : في أول عشر ذي الحجة توفي عالم أهل المغرب صاحب توحيد وسنّة وعلم وفضل الشيخ #محمد_زحل رحمه الله رحمة واسعة وأخلف على الأمة وعلى أهل المغرب خيرا .

 

 

د . محمد العريفي عزى في الشيخ الراحل فقال : توفي اليوم العالم المحدّث الداعية المغربي محمد بن أحمد بن سعيد الملقب بـ زحل ...... أعزي أهلي بالمغرب وبقية العالم ...... رحمه الله وغفر له وأسكنه الفردوس .

 

 

د . أحمد الصويان اعتبر رحيل الشيخ مصاب جلل فقال : توفي اليوم علم من أعلام العلم ورموز الدعوة في المغرب فضيلة الشيخ العلامة محمد زحل رحمه الله تعالى . ........ اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها!

 

 

وكذلك فعل د . محمد الهبدان إذ قال : نعزي أنفسنا وجميع المسلمين بوفاة علامة المغرب #محمد_زحل تغمده الله بواسع رحمته و أسكنه فسيح جناته .... وإنا لله وإن إليه راجعون

 

 

د عبد المحسن المطيري ذكر شيئا من مآثر الشيخ فقال : رحم الله شيخنا العلامة #محمد_زحل كان إماما في السنة ومحاربة البدعة ونشر العلم الشرعي والدعوة ،  ....... زرته العام الماضي فأجازني بصحيح البخاري..

 

 

إنها الميزة التي تمتاز بها الأمة الإسلامية التي يجمع أبناءها دين الله تعالى على اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وألوانهم , فمصابهم بفقد أحد العلماء والدعاة أو من يخدم دين الله واحد سواء كان من مشارق الأرض أو من مغاربها .

 

 

مولد الشيخ ونشأته

 

ولد الشيخ الراحل عام 1943م م 1363هــ في بلدة تيلوى دوار إكوزلن، فرقة أيت بها، قبيلة نكنافة حاحة الشمالية الغربية فرع من قبائل حاحة الكبرى التي تمتد بمفهومها الحديث فيما بين الصويرة و مدينة أڭادير على الساحل الغربي للمحيط الأطلسي .

 

 

وكانت ولادة الشيخ في مرحلة صعبة تمر بها المغرب إذ كان في هذه الحقبة في أسوء مراحله التاريخية عسرا و صعوبة فهو يتململ تحت هيمنة الاستعمار الفرنسي و يعاني من ويلاتها خاصة المناطق الجبلية و الريفية , بالإضافة إلى أن الحرب العالمية الثانية كانت قائمة شرسة لا تبقي و لا تذر و المغرب منخرط فيها و الأوبئة المتفشية المستعصية على العلاج تأكل الأخضر و اليابس حيث مات نصف سكان المغرب من الطاعون كما تذكر تقديرات المستعمر الفرنسي و إحصائياته عام 1946م.

 

 

يقول الشيخ الراحل عن بلاده في تلك الفترة : كانت المغرب في تلك الفترة أسيرة أعدائها الأربعة، فرنسا المستعمرة و الظالمة المؤذية و الثلاثة الآخرين، الجهل و الفقر و المرض بالإضافة إلى الخرافات و البدع و انحراف التدين عن المنابع الصافية للدين التي لم يشبها الكدر من الكتاب و السنة و منهج سلف الأمة و الهدي العملي لخير القرون المشهود لها بالفضل و الخيرية .

 

 

سافر والد الشيخ الراحل بأسرته مضطرا إزاء تلك الظروف إلى مدينة الصويرة التي عمل في أحد مساجدها إماما و محفظا لكتاب الله تعالى ثم عاد بالأسرة إلى نكنافة من جديد بعد 5 سنوات .

 

 

طلبه للعلم

 

يتحدث الشيخ الراحل عن بداية طلبه للعلم فيقول : لما بلغت سن الدراسة باع والدي كل شيء ليعلمني قائلا : "لو احتفظت بهذه الماشية فسيكون ابني جاهلا راعيا و لن يكون متعلما" ,  و حيث لم يكن في مناطقنا إذ ذاك مدارس نظامية و لا تعليم رسمي و إنما كانت هناك الكتاتيب القرآنية و المدارس العتيقة فقد اضطر والدي لترك الفلاحة و جعل يشارط في مساجد المداشر  و الدواوير يؤم الناس في الصلاة و يعلم كتاب الله و كان الذي أجبره على هذا العمل كما يقول أن يكون ابنه من المتعلمين و ليس من الجهال الرعاة للمواشي .

 

 

تعلم الشيخ الراحل مبادئ القراءة و الكتابة على يد الوالد رحمه الله و بدأ يحفظ كتاب الله من قصار السور من آخر المصحف كما جرت العادة و العرف , وبعد معاناة مع مرض الشلل لمدة 3 سنوات استأنف الشيخ حفظ القرآن تحت رعاية والده فأتقنه و أحكمه لفظا و رسما بفضل من الله و فتح منه عام 1956م .

 

 

ومع فجر استقلال المغرب عن المستعمر الفرنسي عام 1956م انتسب الشيخ للمدرسة الجزولية لتعلم مبادئ العربية و الفقه و مفاتيح العلوم الأخرى تحت رعاية الشيخ أحمد بن عبد الرحمان السليماني الحسني , وقد اعتنى الأخير بالشيخ الراحل عناية خاصة لكونه صديقا لوالده , فحفظ الراحل على يديه كثيرا من المتون في العربية و الفقه كالاجرومية و نظمي الزواوي و الجمل و لامية الأفعال وألفية ابن مالك و تحفة ابن عاصم و متن المرشد المعين و متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني و بعض المتون الأدبية .

 

 

وبطلب من الشيخ الراحل وبعد إلحاح منه وافق والده على الالتحاق بالمدرسة الهاشمية بتنمارالتي كان يديرها و يدرس فيها العلامة سيدي البشير بن عبد الرحمان السوسي البرحيلي المنبهي الملقب بتوفيق , ثم التحق الشيخ بعد سنة أخرى بالمعهد الإسلامي بتارودانت الذي بناه المحسن الكبير «الحاج عبد السوسي» و تديره جمعية علماء سوس ، و كان من الأساتذة الذين تلقى عنهم الشيخ في هذا المعهد : الشيخ محمد السرغيني و الطيب الباعمراني و عبد المالك أزنير و عبد الرحمان الرسموكيو أحمد الوجاني البودراري و أحمد العدوي و غيرهم .

 

 

سافر الشيخ بعدها إلى مدينة مراكش و التحق بكلية ابن يوسف ذات الصيت الذائع و التاريخ العريق , و أخذ عن شيوخ نظاميين كانوا يتولون التدريس في الكلية و آخرين غير نظاميين كانت لهم دروس خاصة في المساجد.

 

 

عمله والوظائف التي تقلدها

 

بعد أن تخرج الشيخ من كلية ابن يوسف في منتصف سنة 1963م اتجه إلى مدينة الدار البيضاء حيث شارك في مباراة مدرسة المعلمين ونجح فيها , وبعد سنة من التكوين في الدروس النظرية والعلمية تخرج بتفوق مما خوله التعليم بنفس المدينة , فكان يقوم بالتدريس في المدارس الحكومية ويمارس الدعوة في المساجد والأندية ودور الشباب والجمعيات الثقافية .

 

 

اشتهر الشيخ الراحل بالخطابة والتدريس , فقد خطب الجمعة في مساجد كثيرة منها : جامع الحجر بدرب غلف ، ومسجد الحاج علي الهواري بالقريعة , و مسجد السنة بدرب الطلباء , وجامع الشهداء بالحي المحمدي .

 

 

كما ألقي دروسا متوالية طويلة الأمد في كل من : المسجد اليوسفي بقرية الأحباس والمسجد المحمدي بها , و مسجد الفوارات بالحي المحمدي ، و الجامع العتيق بعين الشق , ومسجد الحفاري بدرب السلطان , و مسجد التوحيد .

 

 

شارك الشيخ في تأسيس الحركة الإسلامية أوائل السبعينات , وأسس مجلة الفرقان سنة 1984م وأدارها عشر سنوات وكتب فيها مقالات مختلفة ونبذا من تفسير آيات الأحكام , كما عمل في جمعية أنصار الإسلام صحبة الفقيه العلامة محمد مفضال السرغيني , كما شغل منصب رئيس رابطة علماء المغرب وعضو مؤسس بمنظمة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين .

 

 

من أشهر مآثر الشيخ الراحل وأعماله الدعوية تفسيره القرآن العظيم في الدروس , حيث ابتدأ بالتفسير عام 1976م وانتهى منه كاملا العام الماضي 2016م , كما شرح خلال دروسه في مسجد الفوارات كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب , ودرّس آيات الأحكام في المسجد اليوسفي ، كما فسر سور المفصل فيه  , ودّرس جزءا كبير ا من جامع الترمذي في مسجد الفوارات , وشرح صحيح البخاري على امتداد ثلاث عشرة سنة في جامع عين الشق العتيق .

 

 

إن المصاب الأكبر في فقد الأمة لعلمائها ورموزها هو خسارة العلم الذي يحتاجه أبناؤها مع عدم وجود خلف له أو وريث , إذ يُخشى حينها أن ينطبق عليها قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ وَيُبْقِى فِى النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ ) صحيح مسلم برقم/6974