التحرش في العيد انحطاط أفدح من جاهلية العرب
12 ذو الحجه 1438
أمير سعيد

مبالغة المنظمات اليسارية والليبرالية في تضخيم ظاهرة التحرش في محيطنا العربي لأغراض ليس من بينها نشر الفضيلة لا يعني أن الظاهرة المشينة هذه غير موجودة أو أنها لا تتنامى مع الأيام.

 

تقوم الفلسفة الليبرالية في أن "الجسد ملك صاحبه"، فلا يجوز لغيره التعرض له أو التحكم فيه، ويتبع هذا أن "التعري" الجزئي أو الكلي ليس مبرراً لاعتداء الآخرين على تلك الأجساد، فيما يقوم المفهوم الإسلامي على أن "الجسد ملك لله" سبحانه لا يجوز لأحد تبرير التعامل معه خارج الأطر الشرعية بذريعة الملكية، سواء بالتعري أو بالانتحار أو الزنا أو بأي لون من ألوان الإضرار.

 

تأسيساً على الفلسفة الليبرالية؛ فإن منع التحرش مطلب "ليبرالي" يمنح الفرصة أكثر للتصرف بـ"حرية أوسع" في الأجساد بما لا ينطلق من أي أسس أخلاقية، وإنما قانونية لها علاقة بـ"الحرية الشخصية" التي تأذن لصاحبها بأن يفعل ما يحلو له في "جسده".

 

من هنا، كانت حملات منع التحرش وتضخيم هذه الظاهرة المشينة رافعة لسن قوانين تجرم التحرش ليس لهدف أخلاقي وإنما لمنع التحرش من أن يكون سبباً في إطلاق ما يُسمى بالحرية الشخصية المطلقة.

 

من منطلق إسلامي لا غضاضة من الاتفاق مع تلك الدعوات والحملات في ضرورة تجريم التحرش، لكن من منطلق أخلاقي شامل تجذره عقيدة الاستسلام لله والخضوع لأوامره سبحانه وتعالى، وبرغم اختلاف الأهداف فإنه من الطبيعي أن يقول الجميع باختلاف أفكارهم "نعم معاً ضد التحرش"، لكن في الحقيقة لا يبدو الآخرون جادين في مكافحة التحرش على نحو ناجز وفعال، فلا أحد ينكر أن سن القوانين الصارمة في الغرب لم يحل دون التحرش وانتشاره لصعوبة ضبطه قانونياً إلا في ظروف معينة، حتى تلك الغابة من كاميرات المراقبة لم تحل دون انتشار الظاهرة في الغرب أيضاً إلى حد شيوع الاغتصاب ذاته.

 

وفي بلادنا الإسلامية يجري التركيز كثيراً من الصحافة الصفراء على رصد تلك الظاهرة في الأعياد الإسلامية تحديداً (دون غيرها كالكريسماس وشم النسيم)، لكن لا غرو؛ فإن يك الرصد دقيقاً فلا مناص من البحث في جذور المسألة، وفي أصلها تبدو المفارقة لافتة جداً في فك هذا الارتباط بين عيد وتحرش مفترض، على الأقل من الناحية التاريخية، يقول العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير آية { واذكروا الله في أيام معدودات } في الحج: "وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء، لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر ، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها ، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها وذكر الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار".

 

اللافت حقيقة في هذا النص أن التحرش اللفظي بالمغازلة ونحوها قد كان قريناً بالعيد عند أهل الجاهلية، لكنه تراجع تماماً حينما ساد المفهوم الإسلامي للعيد، كاحتفاء بانتهاء شعيرة، واستمرار في طاعة، وتجديد عهد على مواصلة العبادة. وفي الحاضر، وإذا كان التحرش ظاهرة بالفعل في أعياد المسلمين في بعض الدول، فليس لأن العيد يحتفل به "إسلامياً"، وإنما بشكل "جاهلي" تستثار فيه الغرائز، ويتباهى فيه بالأجساد، ويتراجع فيه السمو الروحي والأخلاقي الذي هو بالأصل جوهر هذا الدين.

 

إن المسؤولية تقع في "تجهيل الأعياد" على أولئك الذين استرخصوها وجعلها فضاء للابتذال وإثارة الغرائز وحشد وسائل الإعلام لحرف الأعياد عن مسارها الحقيقي التي جعلها الله له، وإذا كانت الجاهلية الأولى قد جعلت من أعقاب الحج، ميداناً للغزل وسيء الخلق؛ فإن أولئك لا ينحطون إلى هذا الدرك فحسب، بل يجاوزون إلى تهيئة المناخ إلى ما هو أسوأ، ومنه التحرش الذي كانت جاهلية قريش لتأنفه وتستقذره من تلقاء ذاتها، وتقتصر فيه باللفظ دون الفعل، ما جعل العيد قريناً – عند هؤلاء على الأقل – للفجور وارتكاب الموبقات، ومنها هذا التحرش الذي يجد مادته الأولية في ضياع القيم والأخلاق، وحرف المعاني الساميات عن جوهر الأعياد، بل جوهر الحياة، كل الحياة.