مفاهيم صححها النبي صلى الله عليه وسلم...الشديد القوي
3 محرم 1439
د. عامر الهوشان

إذا كانت المهمة الأولى لأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي تبليغ رسالة الله تعالى ودعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبدونه من دونه سبحانه قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ .....} النحل/36 ....فإن من الأمور التي اهتم بها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم وركز عليها تصحيح المفاهيم الخاطئة وتصويب التصورات غير المتوافقة مع تعاليم دين الله الإسلام أو التي لا تنسجم مع منظومة الأخلاق التي بعث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لإتمامها بقوله : ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) مسند الإمام أحمد برقم/8952 وصححه الألباني .

 

 

القوة الحقيقية والشديد على وجه اليقين هو الموضوع الذي سيتناوله هذا المقال كمفهوم صححه الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في أذهان أصحابه وأتباعه من أمته , إذ إن صفة الشدة والقوة في الرجل ومفهوم الصرعة في أذهان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – ومن بعدهم أتباعه من أمته - تنصرف إلى ذلك الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه ويتمتع بالقوة البدينة والجسدية الظاهرة .... فجاء التصحيح النبوي لهذا المفهوم الخاطئ والتصور البعيد عن الصواب ببيان القوي بحق والشديد بيقين في دين الله الإسلام . 

 

 

ورد في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ..... : ( فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ). قَالَ قُلْنَا : الَّذِى لاَ يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ .... قَالَ : ( لَيْسَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ) صحيح مسلم برقم/6807 

 

 

وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ) صحيح البخاري برقم/6114 

 

 

قال النووي في شرحه للحديث : تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم وليس هو كذلك شرعا , بل هو من يملك نفسه عند الغضب فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول ... وفيه كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة . شرح النووي على صحيح مسلم 8/161  

 

 

قد لا يدرك البعض السر الكامن وراء اعتبار الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أن قوة الرجل الحقيقية لا تكمن في عضلاته المفولته وفتوته الجسدية التي يصرع بها غيره من الرجال ...وإنما تظهر عندما يملك نفسه في حالة الغضب ويكبح جماع سلوكه وتصرفاته الخاطئة في تلك الحالة الانفعالية الخطيرة ......

 

 

إن من يستطيع ضبط انفعالاته النفسية وارتداداتها الحسية السلوكية في حالة الغضب ويتحكم في نفسه و يملك زمام أمره ويسيطر على حواسه ويحافظ على قواه العقلية في تلك الثورة النفسية العارمة "الغضب" هو في الحقيقة من يستحق لقب "القوي الشديد" في المفهوم النبوي ....فمن يستطيع صرع شيطانه والتغلب عليه في تلك الساعة التي تعتبر بحق ساعة الشيطان الأغلى والأثمن لإفساد عمل المسلم وإيقاعه في المحظورات والمنكرات والمحرمات و....هو بلا ريب : الشديد والقوي الحقيقي .

 

 

في المقابل يسقط كثير ممن وهبهم الله تعالى قوة جسدية وبدنية ظاهرة ويعتبرهم الناس أشداء حسب المفهوم الدنيوي السائد للصرعة...في أتون ضعف الإرادة وعدم القدرة على ضبط النفس عند الغضب , فيسقط عنهم قناع القوة الذي أُلبسوه , وينكشف للناس حقيقة ضعفهم وعدم قدرتهم على صرع وقهر هيمنة حالة الغضب وتداعياتها السلوكية الكارثية على أنفسهم وأرواحهم أولا وعلى ذويهم وجيرانهم ومجتمعهم ثانيا .

 

 

نعم....تظهر القوة الحقيقية للمؤمن الذي يملك نفسه عند الغضب بحلمه وأناته في ساعة يكثر فيها التهور والتسرع , وبضبط انفعالاته في لحظات ينفث فيها الشيطان في نفس الغاضب نار سمومه , و بالحفاظ على مداركه العقلية في وقت تطيش فيه أحلام الرجال وتغيب فيه نهى أولي الألباب .....وهل هناك قوة وشدة أبلغ وأعظم من هذه القوة وتلك الشدة !!! 

 

 

كثيرة هي الأوامر الإليهة والتوجيهات النبوية التي دعت المؤمنين إلى كظم الغيظ وحذرت من مغبة الوقوع في حمأة الغضب , قال تعالى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } آل عمران/134 , وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِنِي . قَالَ : ( لَا تَغْضَبْ ) فَرَدَّدَ مِرَارًا . قَالَ : ( لَا تَغْضَبْ ) . صحيح البخاري برقم/6116

 

 

 

ويكفي تأكيدا على أن مفهوم القوة الحقيقية والشدة الفعلية في هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يكمن في امتلاك النفس عند الغضب وصرع ذلك الانفعال الخطير قوله صلى الله عليه وسلم : ( الصرعة كل الصرعة الذى يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) مسند الإمام أحمد برقم/23164 وحسنه الألباني .