9 صفر 1439

السؤال

هل تمتحن القلوب فعلا؟! وكيف يكون امتحانها؟

أجاب عنها:
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الجواب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أشكر السائل على هذا السؤال، فكثير من الناس يغفلون عن امتحان قلوبهم ويركزون على أعمال جوارحهم وفقط، ولذلك في الحديث الصحيح "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

والابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، والمؤمنون يبتلون، وقد يبتلى في دينه، ويبتلى في ماله، ويبتلى في أهله، وكل هذه الابتلاءات ما هي إلا امتحانات يمتحن الله بها عباده ليميز الخبيث من الطيب.

 

وهدف الابتلاء هو التمحيص والتمييز، والإعداد لتحمل الأمانة، فحملها لا يتم إلا بالاستعلاء على الشهوات، والصبر على الآلام، والثقة في ثواب الله وجزائه ونصره لعباده.

 

كما يقول ابن القيم:

"إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس، ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان".

 

وأما هل تمتحن القلوب، فنعم، هذا بنص القرآن، وكما يُمتحن البدن يُمتحن أيضاً القلب، بل إن امتحان القلب أشد، قال سبحانه: {أولئك الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}، والآيات تتحدث – كما قال المفسرون - عن الصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في مسألة قد لا يعيرها كثيرٌ من الناس اهتماماً، وهو رفع الصوت عند رسول الله (– لاحظ: عند - وليس على - رسول الله، فكيف لو كان الرفع على الرسول صلى الله عليه وسلم؟!)

 

فالذي ينظر إلى التهديد في الآية بعدها، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، يعلم مقدار الخطأ وقيمة التنبيه إليه، ومعنى أن يمتحن القلب فيه..

 

والعلماء يقسمون الأعمال إلى أعمال القلب وأعمال الجوارح.. والقلب للإنسان هو ذاته الحقيقية وهو محركه الأول نحو العمل، وهو ملك أعضائه وآمرها، وهو المضغة التي إن صلحت صلح سائر الجسد وإن فسدت فسد..

 

ولذلك فمدار التقييم عليه ابتداء، قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

 

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت له نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه". رواه مسلم.

 

فالقلب إما أن يُشربها، يعني يقبلها، وهنا يكون رسب في الامتحان، كما قال الله عن بني إسرائيل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي حب العجل فوقعوا في الشرك والبلاء والضلال والانحراف.

وإما أن يرفضها، وهذا يكون قد نجح، وكل واحد منا ما يكاد يسلم من نوع من هذا الامتحان..

 

فقد توجد بعض المنكرات فيختلف الأشخاص تجاهها في الكره، لا أقول في الحكم فقد يكونون متفقين في حكمها بكونها ممنوعة شرعاً، لكن يختلف حال القلب تجاهها، والله سبحانه يقول: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}.

 

فالبعض يكرهها بوضوح؛ استجابةً لأمر الله، والبعض ما يكرهها، وتتردد نفسه وتضعف بين قبولها وكرهها..

وبعض الأشخاص قد يكون حاسماً تجاه ذنب ما، فيرفضه ويبغضه ويرده، بينما هو تجاه ذنب آخر ضعيف لين، فلا يقوى على رفضه ولا رده، فيقع فيه ويرسب في الامتحان.

 

وقد تمتحن القلوب في السراء كما تمتحن في الضراء، بل إن امتحان السراء قد يكون أشد لأنه قد يكون أقرب لهوى النفس وشهواتها، كما قال بعض السلف: ابتلينا في الضراء فصبرنا ثم ابتلينا في السراء فلم نصبر!

 

وقد تمتحن في العبادة، كما تمتحن في العادة، وامتحان العبادة قدرتها على الإخلاص والصدق فيها، ومحبة العبادة والسكون إليها، كما أن امتحانها في العادة الاستجابة لأمر الله فيها..

 

وقد يمتحن في العلم، بالإخلاص فيه، وجعله لله وترك رغبة الشهرة، وترك الجدل فيه والمراء، ورفض ما يستجلب منه من متاع الدنيا، وقول الحق في الرضا والغضب وغيره.

 

بل إن قلب الإنسان قد يمتحن في كل خطوة من خطواته التي يمر بها، فإما يقدم مرضات الله سبحانه ومحباته ويستجيب لأوامره ونواهيه، وإما يقدم شهواته ورغباته ومستحباته ويفضل العاجلة على الآجلة، والناس درجات في هذا الأمر، ولي رسالة يمكن الاستفادة منها بعنوان: "امتحان القلوب"..