أوروبا إذ اكتفت من "العبيد الأفارقة"!
5 ربيع الأول 1439
أمير سعيد

مقطع قصير بثته CNN العربية لشاب نيجيري يدعى فيكتوري يبلغ من العمر 21 عاماً وهو من ولاية إدو النيجيرية، وفي طريقه إلى أوروبا، قال إنه قد بيع كعبد في ليبيا. وأنه قد افتدى نفسه بكل ما يملك غير أن خاطفه أنكر أخذ المال فنقل إلى مركز احتجاز للمهاجرين بصورة غير شرعية.

 

القناة الأصلية CNN الأمريكية كانت قد سبقت ببث تقرير وثائقي يتحدث عما أسماه بتجارة الرقيق في ليبيا، وأورد معلومات خاصة عن وجود سوق للعبيد في خارج العاصمة الليبية طرابلس، يباع فيه المهاجرون "غير الشرعيين" وبأسعار لا تتعدى الـ400 دولار أمريكي.

 

وفق تقديرات الأمم المتحدة فإن أكثر من 700 ألف من المهاجرين موجودون في ليبيا في طريق هجرتهم إلى أوروبا، ولقد صار كثير منهم مهدد بمصائر الاحتجاز أو الاستعباد طبقاً لتصريحات أنس العزبي، مسؤول بوكالة الهجرة غير الشرعية في ليبيا، للشبكة الأمريكية.

 

أمر باعث للقلق للغاية، لاسيما أن هؤلاء المهاجرين خرجوا بدوافع اقتصادية محضة، بما ينأى بهم عن سياق الانتقامات السياسية والصراعات العسكرية التي أفرزت حالات الرق غالباً في التاريخ البشري. وهذا القلق هو ما دعا أكثر من ألف فرنسي إلى التظاهر في باريس – بحسب فرانس 24 – احتجاجاً على عودة الرق، حاملين لافتات كتب عليها بالفرنسية "لا للعبودية في ليبيا".

 

حسناً، شعور جميل! لكن أيمكن أن نطمئن كثيراً إلى "فزع العالم الحر" هذا بسبب بعض حالات الاستعباد، وهم رعاته بالأصل على مر العصور؟! ومن جانب آخر، أمن العقل أن نأخذ هذه التظاهرة الصغيرة في إطار إنساني محض أم من العدل أن نراها زهداً من الأوروبيين في العبودية بعد أن صارت عبئاً على القارة العجوز لقرون؟! وهل بمقدورنا أن نتطلع إلى "ضمير حي" كهذا يستنفر في قلب "عاصمة النور" بسبب حالات الرق في بنغلاديش التي يباع فيها الروهينغيا الفارين من جحيم الذبح والحرق في أراكان في أسواق بثمن بخس لأراذل الناس وتجار الدم والبشر في شبه القارة الهندية أم أن الضمير انتفض زهداً في جلب عبيد إفريقيا بعد أن راجت تجارتهم على أيدي قراصنة أوروبا طوال قرون، ليس إلا؟!

 

ربما ثمة قلوب رحيمة بين المتظاهرين تشفق على هؤلاء المهاجرين، لكنها في الحقيقة استثناء لسلوك أوروبي وحشي أفرز أكبر عملية استعباد في التاريخ الإنساني كله، قام فيها الأوروبيون في القرنين السادس العشر والذي يليه بأسر أكثر من مائة مليون إفريقي وبيع من بقي منهم على قيد الحياة (يقدرون بنحو الثلث أو الربع) في رحلات بحرية مميتة لتجار في الغرب، وفقاً لشهادة علمية أكاديمية فرنسية موثقة، قامت بها الباحثة الفرنسية البارزة جاكلين بيوجيو البروفيسور الفخري بجامعة باريس، رئيسة الجمعية الجغرافية الفرنسية السابقة (1917-1995)، والتي أوردها المفكر الاستراتيجي البارز د.جمال حمدان في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" [1] والذي قال فيه معلقاً على تلك المعلومة المرعبة: "كان عصر النخاسة الذي لم يعرف العالم له مثيلاً من قبل ولا من بعد.

 

وتلك كانت بالتالي أسود نقطة وأبشع وصمة في تاريخ الاستعمار العالمي. فقد كان الرقيق أغلى سلعة في التجارة الاستعمارية، وبخار آلة المركانتليه إن لم يكن وقودها الأسود، وعليه بنت القوى البحرية اقتصادها ورخاءها (...) ومن الصحيح كل الصحة أن نقول إن لشبونة وليفربول قد بنيتا على عظام الرقيق الأسود ودماه. وقد شهد المحيط الأطلسي مثلثاً دموياً يدور مع عقارب الساعة – التجارة المثلثة كما تسمى – تبدأ فيه السفن بنقل بضائع ومصنوعات بريطانيا إلى غرب إفريقيا حيث تستبدل بها شحنات آدمية، ثم تنطلق عبر المحيط لتفرغها في أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، ومنها تعود محملة بمحاصيل المداريات من سكر وروم وقطن وتبغ.. الخ. (...) وكان هذا الاستعمار أو بالأحرى الاستخراب الديموغرافي نزيفاً بشرياً رهيباً أصاب القارة بفقر الدم والضمور". [2]

 

المؤلم أن "الضمير الحي" هذا لم ينبعث في أوروبا إلا حالما حلت الآلة مكان العبيد، وأصبح الرقيق عبئاً اقتصادياً على أوروبا، ثم غدت أوروبا بحاجة لنوع من "التوظيف" بشكل أكثر "أناقة"؛ فسمحت بهجرات محدودة لذوي المؤهلات المتميزة والعمال المهرة فيما تلا حروبها العالمية الدموية، ولقد أنتج الاستخراب الذي أحدثته أوروبا في قارة إفريقيا عوزاً وحاجة دائمة دفع المساكين لتكرار رحلات أجدادهم ولكن بشكل طوعي؛ فانتعش الاسترقاق الطوعي المقنن، ثم تراجع مع الركود الاقتصادي الحالي في أوروبا. ذاك الركود الذي جعل أوروبا تنتفض رفضاً للاستعباد الفج، وترفض هجرة أحفاد العبيد إليها لاعتباره "هجرة غير شرعية".. نعم فلقد هجرة عبيد القرنين السادس العشر والسابع العشر شرعية!

 

ــــــــــــــــــــــ
[1] Jacqueline Beaujeu- Garnier,  Géographie de la population, II, p.39
[2] د.جمال حمدان، استراتيجية الاستعمار والتحرير صـ82-83 .