من معوقات الاستقامة....الجليس السوء
28 ربيع الأول 1439
د. عامر الهوشان

التزام الصراط المستقيم من غير انحراف او اعوجاج والثبات على دين الله القويم من غير إفراط ولا تفريط والاستقامة على منهج الله بفعل الطاعات واجتناب المنهيات....لا يخلو بالتأكيد من معوقات ومثبطات قد تحول دون متابعة سير المسلم على طريق الأنبياء والمرسلين .

 

تحصيل فضيلة الاستقامة على دين الله عزيز ونفيس كيف لا وقد أمر الله تعالى بها خير خلقه وصفوة عباده من أنبيائه ورسله فقال تعالى مخاطبا خاتم رسله : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ...} هود/112 وأمر بها موسى وهارون عليهما السلام : { قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } يونس/89 واعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف الإيمان و أفضل ما يمكن أن يجسد مضمون دين الله الخاتم , ففي الحديث عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك قال : ( قل: آمنتُ بالله، فاستقم ) صحيح مسلم برقم/38 

 

لا تقتصر معوقات الاستقامة على الأمور المتعلقة بشخص سالك طريقها فحسب , بل هناك من المعوقات ما يمكن وصفها بالمعوقات الخارجية التي قد تلعب دورا كبيرا في صد المسلم عن التزام طريق الاستقامة وتقف حائلا دون عزمه على التوبة والإنابة عن سبل الغواية , ولعل أولى تلك المعوقات الجليس السوء .

 

قد يتحرك قلب أحد التائهين عن صراط الله المستقيم بالندم وتهفو نفسه إلى الاستقامة و تطوق روحه للانعتاق من شؤم المعصية وسوء مقارفة الذنوب.....فيكون جليسه السوء وقرينه من الإنس السبب الرئيس في إعاقة استقامته ومنع أوبته وحرمانه من تلمس طريق الهداية والإقلاع عن سبل الغواية .

 

بل إن بعض جلساء السوء ورفقاء المعصية من يعمل جاهدا على إعادة من مشى بعض الخطوات في طريق الهداية والاستقامة من أقرانه ويستخدم في سبيل وقف سير صاحبه إلى الله من الوسائل والأساليب ما قد يكون أشد خبثا من وسائل وأساليب إبليس اللعين .

 

قد تكون قصة عمّ النبي صلى الله عليه وسلم "أبو طالب" خير نموذج لأثر الجليس السوء والصحبة السيئة على المرء , فقد ورد في الحديث الصحيح عن سَعِيدُ بن الْمُسَيَّبِ عن أبيه قال : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن أبي أُمَيَّةَ بن الْمُغِيرَةِ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( يا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إلا الله كلمه أَشْهَدُ لك بها عِنْدَ اللَّهِ ) فقال أبو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بن أبي أُمَيَّةَ : يا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِبِ ؟!! فلم يَزَلْ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عليه وَيُعِيدُ له تِلْكَ الْمَقَالَةَ حتى قال أبو طَالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : هو على مِلَّةِ عبد الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إلا الله . فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( أَمَا والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عَنْكَ ) فَأَنْزَلَ الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } التوبة/ 113, وَأَنْزَلَ الله تَعَالَى في أبي طَالِبٍ فقال لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ القصص/ 56 . متفق عليه .

 

أثر الجليس السوء السلبي على صاحبه عموما وعلى من حدثته نفسه بالاستقامة وهفت نفسه إلى التوبة والإنابة وصدقت نيته في العودة عن طريق الغواية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار , وكيف لا وقد تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أثر و دور الجليس في استقامة العبد أو انحرافه وتواترت النماذج والشواهد العملية التي تؤكد هذه الحقيقة وتدعمها .

 

قال تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } النساء/140 , وقال تعالى : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } الزخرف/67 

 

جاء في تأويل الآية عند ابن كثير رحمه الله : أي : كل صداقة وصحبة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه .

 

وفي السنة النبوية تحذير بليغ من الجليس السوء ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة ) متفق عليه .

 

ولعل في قصة الرجل الذي قتل مئة نفسا ثم سأل : هل له من توبة.... ما يشير إلى أثر الصحبة السيئة والبيئة الفاسدة على قبول توبة العبد وصلاح استقامته وإزالة أهم وأبرز معوقاتها , فقد جاء التوجيه من العالم للقاتل السائل بأن يترك الأرض التي كان فيها لكونها أرض سوء وأن يذهب إلى أرض يعيش فيها أناس صالحون يعبدون الله فيعبده سبحانه معهم . الحديث في صحيح مسلم برقم/ 2766 .