أما آن للأمم المتحدة أن تتفرق؟!
11 ربيع الثاني 1439
أمير سعيد

أجواء الانتصار كانت رائعة؛ فالجميع قد حشر الولايات المتحدة الأمريكية في ركن ضيق، وألجأها إلى الاحتياج إلى مجموعة صغيرة من الدول المجهرية لا يزيد تعداد سكانها مجتمعة عن 90 ألفاً، ويبلغ تعداد إحداها ألفي مواطن فقط، لتأييد الرفض الأمريكي لمشروع الأمم المتحدة حول القدس.

 

انتشرت خريطة للعالم صبغ معظمها باللون الأخضر (في إشارة لفلسطين)، أوضحت كم كان التأييد كاسحاً لفلسطين في رفض تهويد مدينة القدس وتغيير وضعها القانوني الدولي، اعتبر كثيرون أن ذلك هو واحد من أكبر الانتصارات الدبلوماسية لفلسطين على الولايات المتحدة راعية الكيان الصهيوني.

 

نقطة، ومن أول السطر:
برغم احتفاء إعلام العالم العربي بذلك، وتداول النشطاء للتصويت على وضع القدس في الأمم المتحدة على هذا النحو، واستفاضة الإعلام الأمريكي في التهويل من شأن "العزلة التي وضع فيها ترامب الولايات المتحدة"، نكاية فيه أو إكمالاً لزخرف الصورة المعنوية لانتصار العالم المزعوم على الولايات المتحدة في التصويت؛ فإن ما جرى في الأمم لم يكن إلا نصر معنوي محدود فقط، وفي انعكاسه على الواقع يبدو أقرب إلى التخدير أقرب منه انتصاراً؛ فاللون الأخضر هذا ليس إلا خيالاً يوهم بالانتصار وضباباً يحجب حقائق الواقع وضوابطه، وفي قلبها أن هذا التصويت لا قيمة فعلية له ولو صوت العالم كله للقدس إسلامية، إذ لا أثرَ قانونياً يترتب عليه ولا فعالية لمنظمة الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن الذي لا يملك بنفسه رصاصة واحدة لتطبيق أي من قراراته الملزمة! هذا بخلاف أن القرار الواسع التأييد إنما يمثل اعترافاً من جانب آخر بحق للصهاينة في القدس الغربية. كما أنه لم يأت بجديد عن قرارات سابقة كانت أشد منه، صادرة عن مجلس الأمن نفسه (الأكثر أهمية من الجمعية العامة للأمم المتحدة) كقرار 242 والذي ينص على "انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة في النزاع الأخير" (أي الأراضي المحتلة في العام 1967 بما فيها القدس الشرقية المحتلة في هذه السنة).

 

الوهم يتبدى حين ينجاب الضباب الأخضر؛ فإذا الدول المصوتة لفلسطين هي بمعظمها أكثر ما خذلته، ولم تفعل هذه المرة إلا إكمالاً لمسرحية بدأتها مع عصبة الأمم التي سبقت الأمم المتحدة بمنحها بريطانيا حق الانتداب على القدس في العام 1917، ثم أكملتها الأمم المتحدة بإجرامها القانوني المتمثل في تدويل القدس في العام 1947 ثم صمتها على تهويد المدينة طوال العقود السابقة واللاحقة، وحتى هذه اللحظة، وتميعها مع احتلال العصابات الصهيونية لفلسطين ثم اعترافها بالكيان الصهيوني إلى الوصول إلى نقطة التمظهر الحالية!

 

الضباب الأخضر يزول حين تبدو "الأسرة الدولية" كلها (تقريباً) متواطئة فعلياً مع الكيان الصهيوني؛ فلا الاتحاد الأوروبي عموماً ولا بريطانيا أو فرنسا اللتان صوتتا مع القرار العربي في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولا روسيا، ولا الصين... الخ، لديهم أي استعداد للحلول محل واشنطن في وساطتها المزعومة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وليس ثمة مبادرات تذكر سوى المبادرة الأمريكية، ولا استعداد لأرباب اللون الأخضر للاعتراف بفلسطين كدولة في الأمم المتحدة، ولا استعداد لدى أحد لترجمة هذا التأييد الكاسح ضد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة لأي مبادرة فاعلة. اللون أخضر، لكن الوسيط أمريكي مستفرداً بالفلسطينيين، وقراره بشأن القدس سيجد طريقه للتنفيذ تدريجياً ما لم تتخذ الدول الإسلامية إجراءً حقيقياً وفاعلاً، وتحقيق ذلك مستبعد بكل أسف.

 

الأمم المتحدة شاركت في كل جريمة ضد المسلمين، فإن لم تغط العدوان قيدت أيدي المقاومين، ونزعت عنهم كل وسائل الدفاع عن أنفسهم، فهي لم تكن يوماً إلا هيئة لتشريع وتقنين خضوع العالم الإسلامي تحت سلطة محتليه، وإلى ذلك؛ فإنها بلا ريب قامت على نظام ديكتاتوري استبدادي يضع السلطة الدولية الفعلية في أيدي خمس دول فقط، ومنحها حق نقض أي قرار فعال ضد مصالحها؛ فصار العالم واقعاً تحت نفوذ دول كبرى "استعمارية"، واختفى معها معنى "السيادة" الحقيقي. ظاهر نشأة عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة كان إحلال السلام الدولي، وضمان سيادة القانون الدولي، لكن جوهر عمل هذه المنظمة الأخيرة لم يكن إلا إدخال العالم كله لأول مرة في التاريخ ضمن سلطة واحدة قاهرة يتحكم بها عدد محدود جداً من الدول (عدا استثناءات محدودة في فترات النمروذ والضحاك وذي القرنين، والاسكندر بدرجة ما مقاربة).

 

إن نظام الأمم المتحدة لم يكن إلا نظاماً فاسداً يكرس الظلم ويجافي العدالة، وما تمثله نماذج مثل تلك الأخيرة الخاصة بالقدس سوى برهانٍ على انتفاء العدالة عن عمل هذه المنظمة التي أثبت التصويت الأخير الخاص بالقدس أنها تسير وفق نظام استبدادي تحكمت به دول محدودة أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فكل أصوات العالم لم يكن لها قيمة أو تأثير في إثبات فلسطينية القدس أو حتى شطرها الشرقي وحده!

 

ولهذا؛ فإن دول العالم الكبرى لم تزل مستمسكة باستمرار هذه المنظومة الظالمة غير المسبوقة تاريخياً لأنها ضامنة لتسيد الأقوياء على الضعفاء، وإخضاع دول العالم كله، لاسيما الإسلامي منه، والذي يشكل ما يزيد عن 28% من تعداد سكان الكرة الأرضية، والمستبعد تماماً من أي تمثيل "حقيقي" في هيكل المنظمة الفعال/مجلس الأمن الدولي. هذا العالم الإسلامي الذي كانت له قبل أكثر من قرن إرادة حقيقية واستقلالاً قبل وقوعه في براثن الاحتلال من جهة، وتقنين ذلك عبر المنظمات الدولية من جهة أخرى.

 

إن أحد أبرز وسائل تحرر العالم الإسلامي من الوقوع تحت تأثير ونفوذ وضغوط وسلطة القوى الأخرى يكمن في الانفكاك من ربقة هذه المنظمة الظالمة، بعد أن تتوافر لدوله المؤثرة قوة واستقلالية حقيقيين يضمنان لها وله بناء قواعد النظام الدولي على أسس عادلة كتلك التي كانت سائدة إبان حكم الإسلام العظيم وعصوره الزاهرة.