حاجتنا إلى تدوين تجاربنا

ليس من شك أنَّ المسلمين اليوم يعيشون في وقت يشهد فيه العمل الإسلامي تطوراً نوعياً وكمياً على المستوى القطري والعالمي بحمد الله تعالى، والكل ينشد المزيد، ويتطلع إلى الرقي والتطوير.
ولعلَّ من السبل والطرائق التطويريَّة التي تحتاج إلى إحياء وبعث من جديد: تدوين التجارب ونقلها إلى مذكِّرات وتقارير، أو على الأقل ذكريات تحفظ لنا شيئاً من العمل الدعوي والتربوي الرشيد.
وقد حاورت في أهميَّة ذلك بعضاً من أهل الدعوة والتربية الأكارم، ممَّن لهم إسهامات في البناء التربوي والدعوي لهذه الأمَّة المسلمة، وكنت أقول لهم متسائلاً: ألا تلحظون تقصيراً من قبل بعض الدعاة إلى الله في تدوين تجاربهم؟
وكان جواب كثير منهم: بلى ! لقد فرَّطنا بالفعل في تدوين كثير من منجزاتنا الدعويَّة والتربويَّة، مع أنَّنا كنَّا نتمنَّى أن تكون مرصودة مدونة في عالم الكتابة والأرقام !
نعم ! عالم الأماني جميل غير أنَّه يتماهى مع عالم الأحلام ، ونحن ندرك يقيناً أنَّ عالم الأماني غير عالم الأهداف،فالكل يتمنَّى أن يكون ويكون، ولكنَّ الذي يبقى هو الذي يرسم لنفسه الهدف والغاية التي يريدها، ومن ثمَّ ينطلق إليها بنفس وثَّابة، وروح تسمو لنيل المعالي.
وليت الدعاة والتربويين يتداولون الحديث في هذا الأمر ويتطارحونه بينهم مذاكرة وتعميماً فيفيد كل منهم الآخر بما رآه أو مارسه أو سمعه من تجارب خيِّرة
و من خلال تجربة العمل الدعوي وممارسته، يلاحظ ضعف ليس باليسير في تدوين التجارب والأفكار الدعويَّة، مع أنَّ تدوين التجارب فن عرفته الأمم، واهتمَّ به أسلافنا، وأهملناه لما قَّلَّ الجادون في الأمَّة، وانهمك المصلحون في علاج مشكلات الأمَّة، واستحداث المشروعات التي تنهض بها، مما أذهل أكثرهم عن التدوين؛ لقلَّة الأوقات، ومحدوديَّة التجارب، أو التضييع و الغفلة عن تدوين إنجازات ومشروعات تحتاج الأمَّة المسلمة إلى الإفادة منها بتفعيلها في مجال العمل والتنمية الدعويَّة.
لقد حدَّثتْ الكاتبة التربويَّة عابدة المؤيد العظم، حفيدة الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ أنَّ جدها ـ رحمه الله ـ قال لها في يوم من الأيام، وهي جالسة قربه في غرفته، وكانت نافذة الغرفة مفتوحة، فدخلت ذبابة مؤذية، فوقفت على وسادة عندهما، فقال لها جدها الشيخ علي: عليكِ بها، اقتليها قبل أن تطير، فتقاعست حفيدته وطارت الذبابة، وحينما حاولت الحفيدة ملاحقتها لم تستطع أن تقتلها!
لم يمرَّ هذا الموقف على المربي الكبير الشيخ الطنطاوي هكذا، بل قال لها بكل حب وعطف وحنان: أيْ بنيَّة ! إنَّ الفرص لا تعود؛ فهي مثل الذبابة إن لم تقتنصيها فسوف تطير دونما رجعة. وصدق رحمه الله .
أسوق هذه القصَّة ناقلاً فيها هذه التجربة التربويَّة، تذكيراً وتحفيزاً لأهميَّة اقتناص الفرص الدعويَّة، ومن ثمَّ تدوينها كتجارب عمليَّة ، خشية أن تفلت منَّا كسلاً أو عجزاً أو تهاوناً ، فإنَّ الفرص والأفكار قلَّما تعود مرَّة أخرى ولو كانت موقفاً عابراً كما حصل من الشيخ علي الطنطاوي وحفيدته الصغيرة.
وقد توفرت في هذا الزمن أسباب جعلت مهمة تقييد التجارب أيسر وأسهل، ممَّا لم يترك مسوغاً لتأخير هذا الأمر، لما يترتب عليه من فوات فرصة حفظ التجارب وتطويرها وإشاعتها في البلدان، ونقلها للأجيال القادمة، وقد قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ :
العلم صيد والكتابة قيده *** قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** وتتركها بين الخلائق طالقة