29 صفر 1436

السؤال

فضيلة الشيخ: <BR>عن عائشة رضي الله عنها قالت، استأذن رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” إئذنوا لَهُ بئسَ أخو العَشيرَة هُوَ، فلما دخل ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، قلت عنه الذي قلت، ثم ألنت له القول!! قال: يا عائشة، إنّ شَرّ الناس مَنزلة عند اللّه يوم القيامَة من ودَعَهُ أو ترَكَهُ الناسُ اتّقاء فُحشه.<BR>هل هذا يدل أنه من الدين مداراة السفهاء والتلطف بهم دون خنوع، وبما لا يزيد من غرورهم وصلافتهم تجاه الحق؟<BR>

أجاب عنها:
سليمان الأصقه

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
نعم الأمر كما ذكرت أخي السائل، وهذا الحديث أصل في ذلك وقد أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه برقم (6032) و(6054) و(6131) الأخير منها بوب عليه باب المداراة مع الناس.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه أنه وقع في بعض الطرق بلفظ "إنه منافق أداريه على نفاقه وأخشى أن يفسد عليَّ غيره" وهو عند الحارث بن أبي أسامة برقم (800) في بغية الباحث للهيثمي من حديث صفوان بن غسال رضي الله عنه.
وأخرج البخاري في نفس هذا الباب برقم (6132) حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية ولم يعط مخرمة شيئاً فقال مخرمة: يا بني انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت معه فقال: ادخل فادعه لي، قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال صلى الله عليه وسلم: "خبأت هذا لك" فرضي. قيل إن في خلق مخرمة شيء وفي لسانه شدة، فلاطفه النبي صلى الله عليه وسلم وداراه وطيب خاطره.
فالمداراة للناس من حسن الخلق يحتاج لها الإنسان مع ذوي الفظاظة وسلاطة الألسن ليتألفهم ويدفع شرهم لكونهم مطاعين في أقوامهم، فقد قيل إن الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها هو عيينة بن حصن الفزاري وكان سيداً مطاعاً في قومه، فألان له النبي صلى الله عليه وسلم الكلام ولاطفه مداراة له وتأليفاً لقلبه مع ما كان فيه من سوء الخلق وفاحش الكلام حتى إنه دخل مرة على عمر رضي الله عنه وهو خليفة فقال: هي يا ابن الخطاب – كلمة تهديد – فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل... إلخ الحديث في صحيح البخاري (4642)>
وأحياناً يكون الإنسان محتاجاً لمعاشرة شخص - في خلقه شيء - إما لعلمه كنافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما فقد ذُكر عن مالك أنه قال: كان في نافع حدة وكنت ألاطفه وأداريه، فانتفع به، بينما إسماعيل بن أبي أويس ترك نافع لسوء خلقه فلم ينتفع به وانتفع به غيره.
وأحياناً يكون سبب المعاشرة الزواج أو القرابة فيحتاج المرء إلى المداراة، قال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بمعروف من لا يجد من معاشرته بُداً حتى يجعل الله من أمره فرجاً ومخرجاً، ومعاشرة الإنسان لمن لا يحب من أصعب الأشياء إلا أنه قد يحتاج إلى ذلك، كما قيل:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى *** عدواً له ما من صداقته بد
وقال آخر:
تجنب صديق السوء واصرم حباله * فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
أخرج ابن أبي الدنيا في كتابه مداراة الناس والحلم برقم (109) والدينوري في المجالسة (1087) والبيهقي في الشعب (8103) وغيرهم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم.
إن كمال الخلق لا يكون إلا بالإغضاء والتحمل لبعض أخلاق الناس السيئة كما قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، أي العفو من أخلاق الناس، أي اقبل منهم ما عاملوك به من الأخلاق وإن كان قليلاً ولا تدقق وهذا شأن الحكماء والعظماء كما قيل:
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل، فالمداراة من أخلاق المؤمنين، وهي تعني التلطف في التعامل مع سيئ الخلق تأليفاً لهم أو دفعاً لشرهم، وفي حديث مرفوع "مداراة الناس صدقة" أخرجه ابن حبان في صحيحه (471) وفي سنده ضعف وهذه المداراة تختلف عن المداهنة المذمومة التي تعني معاشرة الفساق وإظهار الرضا بما هم عليه من غير إنكار أو بعبارة أخرى ترك الدين لصلاح الدنيا وهي مذمومة ومحرمة، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.