27 رجب 1425

السؤال

أنا معلم لصفوف المرحلة المتوسطة، وأجد أنني غير قادر على القضاء على بعض السلوكيات أو حتى لزوم الصمت أثناء الشرح إلا باستخدام العصا والعقوبات البدنية، والتربويون اليوم يعدونها خطأ تربوياً، فما توجيهكم _حفظكم الله_.

أجاب عنها:
إسماعيل الفقعاوي

الجواب

إن العقاب مرفوض؛ لأنه هو الخطوة الأولى والأوسع انتشاراً في الوطن العربي، والعالم الثالث لزرع بذور الخضوع والخوف في نفوس الأجيال، فالمدرسة كما بقية مؤسسات المجتمع الرسمية والمدنية في شكل بنيتها الهرمية وفي مراسيم التعامل من أعلى إلى أسفل، وبالعكس تعكس هرمية السلطة في المجتمع، والعقاب البدني لا يؤسس لشخصية ذات مكونات فكرية مميزة، تؤمن بإسلاميتها، وتحب الحق والعدل، كما أن العقاب يؤسس في ضحيته خبرات تؤثر في سلوكه الاجتماعي والشخصي بعد ترك المدرسة، فالضحية (الطالب) قد يؤمن بالعقاب كأسلوب ضروري للضبط والتصحيح، فكما عوملنا نعامل، وقد تتبلور لديه نزعات معاقبة الآخرين لا لشيء إلا لتصفية الحساب مع الماضي في نفسه، أو تتولد لديه مشاعر الكآبة أو الهروبية أو العدوان. ولكن لماذا نستخدم العقاب في المدرسة؟ كمعلم سابق كنا نستخدم العقاب غالباً لسببين: 1- تحقيق الانضباط الصفي. 2- تحقيق التحصيل المعرفي، وهذه النقطة تنقسم إلى جانبين: أ- عقاب لعدم عمل الواجب البيتي. ب- عقاب لحصر اهتمام الطلاب للشرح (أي إثارة الدافعية)، ومن ثم أداء أكبر عدد من الطلاب لتمارين التطبيق بنجاح. وأدعي بأنه بتمعن المقارنة بين واقع المدرسة الرسمية، والمدرسة الخاصة على وجه العموم الخالية من العقاب نسبياً، ندرك إمكانية تحقق هذين السببين دون اللجوء للعقاب، بل سنجد المدرسة الخاصة تتمتع بتسرب أقل ورغبة في العصيان محدودة، ومعالجة تربوية فعالة وعلاقات احترام حقيقية، وقد تتمتع بتحصيل أفضل. إن المقارنة لا محالة ستقودنا إلى اكتشاف العوامل الغائبة عن المدرسة والتي آمنا بالعقاب كتعويض عنها. ويمكن إيجاز هذه العوامل في مجموعتين: أولاً: مجموعة العوامل الذاتية: ضعف الرقابة والإسناد المباشر للمعلم في أدائه التربوي والأكاديمي. وتعني هاتان اللفظتان هنا كل ما تتضمنه وتحتاجه العملية التعليمية من ممارسات معرفية وسلوكية من جانب المعلم والطلاب في سياق محاولة التعلم والشروط اللازم توافرها لحدوث التعلم الجيد الفعال، ومنها: عدم تجديد دورات التطوير والتحديث التربوي بشكل دوري للمعلمين القدامى ومتابعة أثر التدريب، والعبء التعليمي الضخم الذي يستنزف طاقات المعلم على العطاء ويولد الضغط النفسي، ولا يترك له متسعاً للتصحيح والمتابعة ومعالجة عدم الفهم في حينه قبل فوات الأوان، وعدم توافر مربين صحيين وأخصائيين اجتماعيين لتقصي ومتابعة الطلاب ذوي الحاجات الخاصة. ثانياً: مجموعة العوامل الموضوعية: عدد الطلاب الضخم في الفصل الواحد يحرم المعلم فرصة معالجة الطلاب ذوي الحاجة ويقلل الدافعية ويقود إلى التبرم والإحباط وهي إرهاصات التمرد، كما ويكون هذا العجز لدى المعلم بعد مدة شعور عدم الاكتراث أو عدم الوفاء بالأمانة، مما يؤدي إلى تكوين عقدة الذنب أو مشاعر سلبية أخرى. كما أن طبيعة مقعد الدراسة الخشبي الضيق تخلق الإرهاق الجسدي لمن يجلس عليه طيلة ساعات أربع، مما يشتت الانتباه ويكرس الملل ويولد الشوق إلى التحرر والانعتاق، وضيق مساحة المدرسة بالنسبة لعدد الطلاب الضخم يولد الاحتكاك والنزاع بين الطلاب في الاستراحات، ولا يسمح بممارسة اللعب ضمن الفريق إلا للأقوى، ناهيك عن افتقار المدرسة لأماكن الترويح بعد مشقة الدرس. أما الأستاذ عزيز بوستا (أستاذ بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بطنجة المغرب)، فيقول: ما زال العقاب البدني واللفظي سائداً في مؤسساتنا التربوية باختلاف مستوياتها الأولية والأساسية وغيرها، ويأخذ العقاب هنا عدة مظاهر منها: 1- العقاب البدني بأدوات معينة كالعصي والحبال والمساطر وغيرها، أو باللطم والصفع والقرص. 2-العقاب دون استخدام أدوات: كإيقاف الطفل خلف الباب، أو في مواجهة الحائط الخلفي للفصل مع رفع إحدى رجليه أو دون رفعها لمدد متفاوتة. 3-العقاب اللفظي المتمثل في السب والشتم والاستهزاء والسخرية. 4- العقاب بالإهمال وعدم إعارة أي اهتمام لما يقوم به الطفل من أعمال ونشاطات تربوية وتعلمية. 5- العقاب بالتنقيط (نقطة الصفر، النقطة الموجبة للرسوب). 6-العقاب بالواجبات والفروض، كإرغام الطفل على كتابة كلمة أو جملة أو فقرة عشرات أو مئات المرات . وتختلف وجهات النظر حول العقاب، فالمؤيدين للعقاب غالبا ما يدافعون عنه بالأدلة الآتية: () ما دام العقاب البدني شائعاً في المجتمع والأسرة، يستحيل إزالته من المؤسسة التربوية، وإلا أصبحت هذه الأخيرة مجالاً لتفريغ شحنات الطفل نتيجة العنف الممارس عليه خارج المؤسسة ؛ لأن الطفل في هذه الحالة لا يرتدع بوسائل أخرى غير العقاب... لذلك علينا أن نفكر في محاربة كل الأساليب العنيفة في تعاملنا مع الطفل خارج المدرسة قبل الشروع في ذلك داخلها. () العقاب وسيلة ناجعة لتقويم سلوك الطفل، وإلا سقط في الانحلال، فيصبح مدللاً، لذا لا يجب إطلاق العنان لنزعات الطفل الفجة. () العقاب يساهم في تقوية مكانة وشخصية المدرس أو المربي، وانعدامه يؤدي إلى إضعافها. أما حجج الرافضين للعقاب البدني، فمنها: () العقاب وسيلة بدائية لا تتناسب مع التطور الحضاري الذي عرفته الإنسانية. () العقاب يؤدي إلى تمرير الراشد للطفل لمبدأ غير أخلاقي هو أن الحق للأقوى، فالراشد يعاقب لأنه الأكبر والأقوى، وهذا يلغي فضيلة الحوار وأسلوب الإقناع والاقتناع. () تركيز المربي على العقاب يؤدي إلى الانتباه للأخطاء فقط، وإهمال الدعم والتشجيع. () الطفل المعاقب يحس بعدم جدوى القيام بأي مجهود جديد، خشية الوقوع في الخطأ الذي تتلوه العقوبة. () العقاب العنيف له انعكاسات خطيرة على شخصية الطفل ومستقبله، فهو يؤدي به إلى: فقدان الثقة في النفس، والانطواء والخجل، وعدم القدرة على المواجهة، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، وكراهية المربي والمؤسسة التربوية، وينشأ الطفل على الخوف أو التمرد والعصيان، كما يمكن أن يؤدي العقاب إلى التسرب الدراسي. () العقاب لا يفرض احتراماً حقيقياً للمدرس من طرف الأطفال المعاقبين، بل هو احترام مصطنع، كما أن أفضل السبل لتقوية شخصية المدرس يكون بالتعامل التربوي الإنساني، لا بممارسة أية سلطة قهرية. ونخلص إلى أن معظم التربويين يجمعون على خطورة العقاب البدني المبالغ فيه على تكوين شخصية الطفل. إلا أن العقاب إذا خضع لقيود تربوية صارمة، يمكنه أن يكون مفيدا في تربية الأطفال، فمثلا عالم النفس دانييل لومبير، يرى أن العقاب ليكون تربوياً، لا بد للمربي من اتباع المعايير الآتية: 1- يجب أن يرتبط العقاب بهدف رئيس، وهو أن يستوعب الطفل أننا غير راضين عن سلوك معين لكي لا يعيده. 2- يجب أن تحصل العقوبة مباشرة بعد السلوك الخطأ؛ لأن مفهوم الزمن لدى الأطفال الصغار يختلف عن مفهوم الكبار له. 3- علينا أن نقيم ربطاً منطقياً بين العقوبة والخطأ المرتكب. 4- يجب الثبات فيما نطالب به الطفل، وعدم نسيان أو تغيير طلباتنا. 5- علينا أن نتأكد من أن ما نطالب به الأطفال ممكن التحقق ومناسب لسنهم. 6- أن نتأكد من أن عقوباتنا لا تحمل أي أعراض جانبية أو تأثيرات سلبية على الأطفال. ويضيف بعض الباحثين معايير أخرى، مثل: أ - ضرورة أن يتناسب العقاب مع درجة الإساءة أو الخطأ، لا مع درجة مخالفة أو مضايقة الراشد وغضبه؛ لأن العقاب لا يجب أن يكون انتقاماً أو تنفيساً عن غضب الراشد وانفعاله. ب - عدم إهانة الأطفال أو تهديدهم أو تجريمهم. ج - إشراك الأطفال في إصلاح أخطائهم، كلما تأتى لنا ذلك. د - تفادي مطالبة الأطفال بوعود لن يتمكنوا من الالتزام بها، أو أن نطلب منهم المسامحة والاعتذار عن موقف لا يفهمونه. لعل أهم ما يمكن استخلاصه من كل ما سبق، هو أن للعقاب البدني العنيف عواقب خطيرة على نمو الطفل وتكوين شخصيته، وإن كان لا بد لنا كراشدين (مربين أو مدرسين أو آباء وأمهات) من تقويم أي انحراف في سلوك أطفالنا، فليكن ذلك بأساليب تربوية تحفظ كرامتهم وتصون حقوقهم، وتهيئهم لتحمل المسؤوليات الجسيمة التي تنتظرهم في بناء عالم الغد المفعم بالتحديات.