أما هذا فقد قضى ما عليه
27 رجب 1424

بسم الله الرحمن الرحيم
"في صيف عام 1423هـ حضر فضيلة الشيخ / عبدالرحمن الفريان – رحمه الله – إلى منطقة الجوف، وقد قام بإلقاء درس بعد صلاة الفجر ثم بعد الإفطار قام بزيارة إحدى الدوائر الحكومية وألقى فيها كلمة، ثم قام بزيارة السجن العام وألقى كلمة على المساجين، ثم صلى الظهر في إحدى الدوائر الحكومية – المحكمة – وقام بإلقاء كلمة على الموظفين والمراجعين، ثم قام بزيارة إمارة المنطقة ثم ارتاح حتى العصر، ثم صلى العصر في أحد الجوامع وألقى كلمة، ثم خلى بنفسه للاستعداد لإلقاء محاضرة بعد مغرب ذلك اليوم، وقد ألقى محاضرة بعنوان ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كما وافق الشيخ على حضور لقاء بعد صلاة العشاء مع طلاب العلم ( لكن اعتذر فضيلته بعد صلاة العشاء نظراً لظروفه الصحية )، وكان _رحمه الله_ حين زيارته تبدو عليه ملامح التعب والإجهاد، كما قام بعد ذلك بزيارة مدينة طبرجل، ثم مدينة القريات، كما كان لفضيلته معرفة بكبار السن من أهل الجوف؛ لكونه كان يزورهم قبل أكثر من ثلاثين عاماً للدعوة وإلقاء المواعظ والمحاضرات، كما قام _رحمه الله_ بكفالة أكثر من عشر حلق قبل قيام الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن بهذه المنطقة"
بهذه الكلمات التي خطتها يراع أحد قضاة منطقة الجوف يوم الجمعة 8/7/1424هـ اختصر لنا حياة الشيخ / عبدالرحمن بن عبدالله آل فريان – رحمه الله – .
لقد كان الشيخ عبدالرحمن رجلاً نادراً وطرازاً فريداً من جيل الرواد، يجهل كثير من الناس حقيقة ذلك الرجل الفذ، وما يحمله من صفات، وما يقوم به من عمل في سبيل الدعوة إلى الله ونشر عقيدة التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما علاقته بالقرآن الكريم تعلماً وتعليماً وبذلاً، فهذا مما تقصر دون تمامه الصفحات والأقلام، وما أكتبه عن هذا الإمام – رحمه الله – ليس ترجمة ولا كتابة سيرة، وإنما هي وقفات مختصرة، وصفحة مشرقة من صفحات ذلك الجبل الأشم والرائد الذي قلّ أن يتكرر.
ولقد احترت بأي تلك الصفحات أبدأ، وعن أي تلك المآثر أتحدث، ولكنه القرآن الذي ثبت عن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أنه قال كما في صحيح مسلم: " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين " (1).
الوقفة الأولى :
لايذكر تعليم القرآن في المملكة إلا ويكون الشيخ في مقدمة أولئك الرواد الذين أخذوا على عواتقهم بذل الغالي والنفيس من أجل نشر القرآن وتعليمه والتربية عليه والدعوة إليه.
لقد كان هم تعليم القرآن الكريم هو الهم الذي أقض مضجع الشيخ عشرات السنين منذ أكثر من أربعين سنة حتى آخر لحظة من حياته _رحمه الله_ .
والذي يعرف كيف كانت هذه البلاد قبل خمسين سنة، وكيف أصبحت يدرك الأثر الذي تركه فقيد الأمة _رحمه الله_ وبخاصة فيما يتعلق بحفظ القرآن وتعليمه.
وبالأخص المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية، لقد كان تعليم القرآن شغله الشاغل وهمه الذي لاينقطع، بدأ ذلك قبل أربعين سنة في حلقات معدودة في مدينة الرياض، ثم انطلق إلى ماجاورها وانتقل بعد ذلك إلى الشرقية ثم إلى الشمالية، وأسس الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن بالمنطقة الوسطى والشرقية والحدود الشمالية، حيث كان هذا هو اسمها قبل سنوات، ثم استقلت كل منطقة بجمعيتها، واستمر الشيخ في الإشراف على جماعة تحفيظ القرآن بمنطقة الرياض، حتى بلغ عدد الملتحقين بالجماعة في عام 1424هـ أكثر من مائة ألف من الذكور والإناث .
ويكفي أن تدرك أن عدد الدور النسائية في مدينة الرياض فقط بلغت قرابة مئتي دار يدرس بها أكثر من أربعين ألف امرأة وفتاة، مع حداثة تعليم المرأة وافتتاح الدور النسائية، ولم يكن الشيخ مجرد مشرف عام، أو يحمل منصباً شرفياً، بل كان هو المؤسس والمشرف المباشر، والداعم الرئيس، يحضر الجلسات، ويشرف حفلات التخرج، ويواجه المشكلات ويحل ماتلاقيه من معضلات.
وأحسب أن القرآن _بفضل الله ثم بجهود الشيخ ومن معه من إخوانه – دخل كل بيت في منطقة الرياض إلا من أبى .
بل إن الشيخ سعى لدى المسؤولين ليكون القرآن أنيس السجناء، وسبباً من أسباب صلاحهم وتخفيف محكومياتهم، وقد استجاب المسؤولون لذلك، فكان من حفظ شيئاً من القرآن يخفف عنه من المدة ما يقابل ذلك.
ومن حفظ القرآن كله سقطت عنه نصف محكوميته مهما بلغت، وبسبب ذلك حفظ كثير من السجناء القرآن الكريم فصلحت أحوالهم، وعادوا إلى أهلهم قبل انقضاء محكومياتهم، وكان الشيخ يشرف على تلك الحلقات داخل السجون، ويحضر حفلات حفظ القرآن التي يقيمها كل سجن لنزلائه.
أما الدعم المادي من أجل القرآن تعلماً وتعليماً فلا أعرف أحداً يساميه، سواء من ماله الخاص أو بسبب شفاعته لدى المحسنين.
إن الحديث عن علاقة الشيخ بالقرآن الكريم تحتاج إلى مؤلف خاص، وهذا من مسؤولية أبنائه وإخوانه في جماعة تحفيظ القرآن الكريم، وفاء بحق الشيخ، ولتعرف الأمة كم فيها من رجال، وأسأل الله أن يجعله من الأخيار الذين قال فيهم – صلى الله عليه وسلم –:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وألا يحرمنا وإياه شفاعة القرآن كما ثبت في الحديث الصحيح " يأتي القرآن يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" .
الوقفة الثانية :
من أبرز صفات الشيخ قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شجاعة نادرة في هذا المجال، وقوة حجة وسرعة بديهة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو من القلائل الذين اشتهروا في هذا الجانب، وله من المواقف والقصص ما سارت بها الركبان، يدخل على الأمراء والوزراء والمسؤولين والوجهاء والعامة ويتحدث دون خوف أو مهابة أو وجل، مع حكمة وبصيرة شهد له بها الجميع، لايذكر له منكر إلا ويفزع، فلا يقر له قرار حتى يقوم بما أوجب الله عليه، دون تردد أو تسويف، فكم من منكر عظيم أزاله، وكم من معروف أقامه، استمر على ذلك المنهج من شبابه حتى لقي ربه، وأحسب أنه يصدق عليه قول أبي سعيد الخدري لمن أنكر على مروان تقديم الخطبة على الصلاة يوم العيد : " أما هذا فقد قضى ماعليه " هكذا نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا.
وقبل أيام من وفاته كنت مع شيخنا العلامة / عبدالرحمن البراك في مجلس التقى فيه عدداً من طلاب العلم، فذكر الشيخ أنه من العلماء القلائل في قوة الحجة وسرعة البديهة مع شجاعة نادرة، فرحمه الله رحمة واسعة .
الوقفة الثالثة :
اشتهر الشيخ بجولاته الدعوية الخاصة والعامة، في المدن والقرى والهجر والأرياف والبوادي، في المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات والمجالس الخاصة والعامة، يتحدث عن القرآن والسنة ويدعو إلى التوحيد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يشيع الفضيلة، وينهى عن الرذيلة، ويدل الأمة على مافيه صلاحها وفلاحها، لايكل ولايمل، لايشغله عن ذلك شاغل مهما عظم، ولايصرفه عن الدعوة دنيا ولا ولد.
ويذكر أبناؤه وتلاميذه ومرافقوه في ذلك العجب، من الصبر والجلد والتحمل مما يعجز عنه كثير من الشباب، وبخاصة في السفر وزيارة المدن والقرى والهجر.
وآخر جولة دعوية قام بها إلى شمال المملكة عام 1423هـ، واستمر على ذلك حتى أقعده المرض واشتد عليه الألم فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
وأختم هذه الوقفات بما يلي :
1. عرف الشيخ بحبه للشفاعة لدى المسؤولين وسعيه إلى ذلك، وبخاصة إذا تعلق الأمر بطلاب العلم والدعاة مما قد يواجهونه في سبيل دعوتهم وتعليم الناس، بل إن الشيخ يرى أحياناً أن الأمر من باب نصرة المظلوم وليس من باب الشفاعة فحسب، وأخذاً بقول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" .
أما شفاعته للعامة فأشهر من أن تذكر، أخذا بقوله _سبحانه_: "مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا" (النساء: من الآية85) ويقول - صلى الله عليه وسلم –: " اشفعوا تؤجروا" (2) .
2. من أبرز ميزات الشيخ اطراده على منهجه وثباته عليه عشرات السنين حتى لقي ربه، مع ماواجهه في ذلك من ابتلاء ومشقة، فصبر وصابر، وجاهد واجتهد،فنسأل الله أن يجعله ممن قال فيهم : "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب:23).
والذي يعرف الشيخ منذ شبابه يعرف حرصه على التزام السنة والسير على هدي السلف وخير القرون، لم يغير ولم يبدل ولم يضعف ولم يفتر، مع مراعاته لظروف الزمان والمكان والحال والمحل، وهذا عين الحكمة "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269).
3. مع أن الشيخ حصل على أعلى الشهادات في زمنه، حيث تخرج في كلية الشريعة، مع سبق في طلب العلم على كبار العلماء والمشايخ، إلا أنه لم يعمل في أي وظيفة عامة أو خاصة، بل تفرغ للدعوة إلى الله وخدمة كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم –، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فتح الله عليه من أبواب الرزق ما أغناه عن الخلق، بل إنه سخر ماله وثراءه في البذل في سبيل الله من نشر القرآن وتعليمه، والدعوة إلى الله ومساعدة طلاب العلم، والإنفاق على بناء المساجد ومؤسسات الدعوة، وكفالة الفقراء والأيتام والمساكين حتى لقب بأبي الأيتام والمساكين، وكان يسكن بجوار منزله السابق عشرات الفقراء والمساكين الذين وجدوا فيه الأب والمعين والمنفق سراً وعلانية، فرحمه الله رحمة واسعة.
4. ومع ذلك كله فقد كان شديد التواضع، لين الجانب مع المؤمنين، بعيد الغضب، سريع الفيأة، مع شدة وغلظة على المنافقين والعلمانيين وأعداء الدين، التزاماً بقوله _سبحانه_: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" (المائدة: من الآية54).
رحم الله أبا عبدالله، وعوض المسلمين عنه خيراً، فقد كانت مصيبة الأمة فيه مصيبة، ولكن عزاؤنا فيما تركه من أثر، وما بناه من أجيال، فإنه وإن غاب عنا بجسده، فإن آثاره لاتزال – وستبقى بإذن الله – بيننا نتذكره كلما رأينا تالياً لكتاب الله، أو حلقة في مسجد، أو آمراً بالمعروف، أو ناهياً عن المنكر، فرحمه الله رحمة واسعة وخلف أبناءه وتلاميذه والمسلمين عنه خيرا.
"الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة:156).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

----------------------------------------
(1) صحيح مسلم (1/559)
(2) صحيح البخاري 2/520 حديث رقم (1365)