يا بني! توجيه رفيق
1 ربيع الثاني 1425

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ما زلنا مع سورة يوسف، ونقف اليوم مع آية يعلمنا فيها يعقوب - عليه السلام - أسلوباً فريداً في التربية والتوجيه، يقول الله - تعالى-: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف:4، 5). أسلوب رائع في التعامل بين الأب وابنه، فيعقوب - عليه السلام - يربي أبناءه على الرجوع إليه كلما حدث لهم ما يثير انتباههم، حتى يوجههم التوجيه المناسب، فأنت ترى ابنه يوسف –عليه السلام- يرى رؤيا فيبادر بقصها على أبيه ولا يتردد، وهذا يشير إلى طبيعة العلاقة الحميمة بينهما.

ثم لما قص عليه الرؤيا أولاها ما تستحقه من الاهتمام، فلا هو أهملها كما يفعل الكثيرون، ولا هو بالغ في الاهتمام بها. كثير من الناس يظن أن رؤيا الأطفال لا أهمية لها والواقع أنها قد تكون أصدق من رؤى الكبار؛ لأنهم ما زالوا على الفطرة ولم يتعودوا الكذب وفي الحديث الصحيح "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً"(1). كذلك المبالغة في الاهتمام برؤى الصغار ليس أمراً مرضياً؛ لأنه ربما دفعهم إلى الكذب لينالوا ما يرونه من تشجيع.

ومن اللفتات في هذه أن يوسف - عليه السلام - لم يقصص رؤياه على أبيه أمام إخوته، وهذا ما ينبغي أن يراعى لئلا تدفع المنافسة الصغار لاختلاق الرؤى.
وفي تأكيد أبيه على عدم قصها مصداقاً لما روي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصححه بعض أهل العلم(2) "اقضوا حوائجكم بالكتمان، فكل ذي نعمة محسود"، وإذا كان هذا قد يقع بين الإخوان، فوقوعه مع العامة أحرى، ومراعاته إذن أولى.

قوله: "إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً" (يوسف: من الآية4) فهمها يعقوب - عليه السلام-؛ لأنه كان ممن يعبر الرؤى، وعلم ما سيحدث لابنه من عز وشرف، لذا نبهه ألا يقص الرؤيا على إخوته لئلا يحسدوه عليها، ثم لم يكتف بالنهي لئلا يبقى في نفس الصغير شيء، فيتساءل لم يكد له إخوانه؟ وماذا صنع لهم! فقال له: إنهم سيفعلون ذلك بكيد من الشيطان فبقيت في نفس يوسف - عليه السلام - فعلل بها في آخر القصة "مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي" (يوسف: من الآية100)، وهنا إشارة لواجب الآباء في السيطرة على مشاعر أبنائهم بحسن التوجيه لئلا ينشأ بينهم التباغض والحسد.

ومن اللفات هنا أن يوسف - عليه السلام - من أهل بيت آتاه الله الحكمة، وعرف بتأويل الرؤى صغاره وكباره، ولهذا قال يعقوب - عليه السلام-: "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ" (يوسف: من الآية5)، فعَلِم أنهم سوف يعلمون تأويلها فربما نزغهم الشيطان إلى الكيد، فأمره بعدم قصها عليهم.

ومن اللفتات أيضاً مبالغة يعقوب – عليه السلام - في تحذيره فهو لم يقل: فيكيدوك، بل قال: "فَيَكِيدُوا لَكَ" (يوسف: من الآية5) فضَمَّن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك.

واللفتات التربوية في هذه الآية كثيرة، ولعل من أهمها ما يلي:
1- البدء بما يسترعي انتباه الابن أو الطالب أو المقصود بالتوجيه، وهنا استرعى يعقوب سمع ابنه يوسف - عليهما السلام - بعبارة حانية محببة يقول فيها: (يا بني)! وفرق بين أن تجذب انتباه من تريد توجيهه بعبارة تلفت انتباهه نحو ما تقول فيلتفت إليك بوجهه وعقله، وبين أن تجذب انتباهه بعبارة زاجرة تجعل جل همه التفكير فيما يخلصه من الصراخ أو الزجر أو التوبيخ، فيترك ما نهي عنه للحظة، ثم يعود بعد مدة؛ لأنه ما تنبه إلى الحكم والأسباب، وإنما كان همه التخلص من العبارة المرعدة المرعبة: "يا ولد"! أو "يا ..."!
2- اختار يعقوب - عليه السلام - عبارة تأطر الابن على طاعة أمر والده، فهذه العبارة الحانية (يا بني!) والتي فيها نسبة الابن إلى نفسه، تنبه الابن إلى معاني الأبوة في الكلام المقبل على تلقيه، فهو يعلم أن ما سيأتي بعدها أمر أبوي يفيض بحب الخير للأبناء، وكراهة كل ما يسوؤهم، وطاعة مثل هذا الأمر أقرب من عصيانه، كما أن النداء بـ (يا بني!) مشعر بنوع شفقة وحرص أبوي يناسب مقام النهي والتحذير، والسامع للعبارة يستشف منها معنى: أنت مني، ولذا أشفق عليك فلا تفعل.
3- لم يكتف بالنهي المجرد، بل أتبعه بتعليله، فقال أولاً: "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ" (يوسف: من الآية5)، وعقب بقوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5)، فالأجسام البشرية ليست مجرد آلات تتحرك بالأوامر، فما أسرع الناس لمخالفة ما لم يعرفوا حكمته، أو يقفوا على علته، بل ما أسرعهم إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به –كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها-.
ولهذا قرر علماء التربية في العصر الحاضر أن توجيه الأطفال لابد أن يصحبه شيء من التعليل، وإلاّ كانت النتيجة امتثال الأمر أمام الأباء، ومخالفتهم فور تولية ظهورهم!
إن هذه النمط الديكتاتوري في التربية: افعل "وبس"! لم يكن يعرفه أعظم المربين - صلى الله عليه وسلم-.
هاهو ذا يوجه ابن عباس في كلمات تلحظ الشبه بينها وبين كلمات يعقوب –عليهما السلام- هذه فيقول: "يا غلام إني أعلمك كلمات".. وينهى الآخر الذي طاشت يده في الصحفة بأسلوب أكثر بلاغة وإبداعاً، فيقول: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك"، فيا لله أي معلم هذا! يقول علماء التربية الغربيون: إذا أردت أن تنهى ابنك أو من توجه، عن فعل أمر، فحاول أن يكون ذلك بصيغة الأمر قدر المستطاع، فإن النهي المباشر مصادمة لإرادة الطفل أو الموجه، وصرفه عن خطئه بإرشاده إلى الصواب توجيه وتسديد لإرادته، ولهذا قال: "كل بيمينك.. كل مما يليك"، ومن هذا القبيل أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن عندما امتدت يده إلى تمر الصدقة: "كخ كخ" تنبيه! "ارم بها" توجيه بالأمر لابالنهي! "أما علمت أنها لا تحل لنا" تعليل، فأين هذا الأسلوب من الأسلوب العسكري الدكتاتوري الذي ينتهجه بعض الآباء! لتكون النتيجة تربية ديكتاتوريين صغار ليصبحوا في المستقبل دكتاتوريو رجال الغد! بينما يتنازل الحسن –رضي الله عنه- الذي رباه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفهم والتعليل عن الخلافة وأي خلافة!
وهنا يعقوب - عليه السلام - ينهى عن محذور لم تتوجه إليه إرادة الطفل ولكنه محتمل، فناسب أن يكون النهي نهياً صريحاً، ومع ذلك علله بقوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5) فهو ليس نهياً مجرداً بل نهي معلل مقنع.
4- قوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5) فيه دليل على فطنة يعقوب، إلى تصرفات وسلوك بنيه، فلم يكن يعقوب - عليه السلام - سيئ الظن، ولكنها فراسة المؤمن قادته إليها يقظته وفطنته، فهو يعلم أحوال أبنائه من حوله، ويستشف من تصرفاتهم شيئاً ربما وجد في نفوسهم، ويعمل جاهداً على ألا يستفحل الأمر فيخرج إلى نطاق لا يمكن تداركه، فتراه يقطع كل سبيل ربما قاد إلى تفاقمه، وهكذا ينبغي أن يكون المربي فطناً لبقاً يحسن قراءة نفوس طلابه ومن حوله بناءً على تصرفاتهم، ويتعامل مع تلك النفوس بما يناسبها، وليحذر من الإيغال في الريبة والشك فلايرتاب بغير مبرر ظاهر ومحض ظنون، فـ "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات: من الآية12)، كما ليحذر من أن يكون الحاضر الغائب، لايعلم شيئاً ولايحلظ أمراً حتى تقع الفأس كما يقولون على الرأس! ولات ساعة مندم.
5- وأخيراً حرصه على سلامة صدور الإخوة بعضهم تجاه بعض، ولهذا نسب إلى أحد الدوافع والأسباب، وهي وسوسة الشيطان (عدو الإنسان)، وفي هذا فائدة أخرى، وهي استثمار المواطن المناسبة، لبيان العدو الحقيقي، وتوطيد بغضه، ولهذا قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف: من الآية5)، فذكر عداوته وعبَّر بالمصدر (عدو) فهو عدو بغَضِّ النظر عن الزمان أو المكان، وليست عداوته عداوة خفية، بل هي عداوة بينة جلية، كيف لا وقد أخبر الله عن قوله : "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ" (الأعراف: من الآية16).

نسأل الله أن يجنبنا الشيطان وكيده، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا متابعة الأنبياء في أسلوب تربية الناشئة والأبناء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

____________
(1) صحيح مسلم 4/1773.
(2) انظر السلسلة الصحيحة رقم 1453.