أنت هنا

قيمة ما عندنا من أفكار
14 جمادى الثانية 1425

منذ أكثر من خمسين سنة، وعندما كان العالم كله يكتب عن سيادة الشيوعية وانتشارها في العالم، لاحظ مالك بن نبي ملاحظة مهمة جداً في سياق رصده للتحولات التي طرأت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، لقد ذكر ابن نبي في كتابه (مذكرات شاهد للقرن) أنه بعد الحرب العالمية الثانية "بدأ العالم يتأمرك"، وبّين أن العالم كله بدأ يقلد أمريكا في طريقة حياتها وفي أزيائها وفي أفلامها، ولم يسلم من ذلك الأوروبي أو غيره، كما أنه أشار في كتاب آخر له، وهو: (وجهة العالم الإسلامي) بأن الغرب مهما بلغ من تقدم فإنه فقد بريقه في العالم الإسلامي ولم يعد نموذجاً يقتدى.

والآن وبعد خمسين سنة، وبعد أن صار أمر أمركة العالم مشروعاً واضح المعالم، وصار ينتقده كل الناس غربيهم أو شرقيهم انتبهنا نحن المسلمين إلى خطر هذه الأمركة التي جاءت تحت غطاء العولمة.

والملاحظة التي أود تسجيلها هنا هو أننا نجهل قيمة الأفكار في زمانها، كما أننا نحتقر ذاتنا، وإلا كيف نفسر عدم اهتمام أي أحد بما نبه إليه مالك بن نبي منذ خمسين سنة؟ وكيف نفسر عدم عناية أي أحد بما قاله ابن نبي _رحمه الله_؟ ألأنه عالم مسلم؟ أم لأنه قال فكرته في سابق أوان لها؟ أم أن المناخ الثقافي في العالم الإسلامي تسوده ثقافة احتقار الذات، ولذلك لم يول كبير عناية لما قاله ابن نبي؟

والأمر في تصوري له وجهتان؛ أولاها: أننا مازلنا نعاني من مرض خطير يتمثل في عدم تقديرنا للأفكار وأهميتها في صناعة التاريخ، ، ولذلك لم نستفد مما قاله الرجل، ولم يثر فينا أي قلق أو انتباه فكري، يحفزنا على تأمل المسألة، والنظر في نهاياتها، وسياق هذا التعجرف الأمريكي.

أما أخراها، فهو الشعور المنتشر بين النخبة التي تسمي نفسها مثقفة، ويتمثل هذا الشعور في احتقار أنفسنا، وشعورنا بالدونية تجاه الكفار عموماً وتجاه الغربيين بصفة خاصة، حيث إننا صرنا نشعر بعدم القدرة على الإبداع أو التفوق أو الاستعلاء الإيماني الذي يمنحنا الثقة في أفكارنا وفي قدرتنا على التفوق والعمل المبدع المستفيد من التجارب الأخرى والمتجاوز لها.

ويحضرني في هذا السياق تعليق أحد الكتاب على أحد المقالات الذي كنت قد كتبته ذات يوم بعنوان "في مفهوم الحضارة العالمية"، واستشهدت بأحد أقوال ابن نبي فحمل علي حملة شعواء، واتهمني بأني أوالي أفكاراً قديمة قيلت منذ زمن بعيد، وينبغي علي أن أنتبه إلى الأفكار الجديدة السائدة في الغرب، وغير ذلك مما قاله.
وأحسب أن الرجل يريد أن ينهاني عن الحزبية الضيقة أو الولاء للأشخاص، وقد غاب عن أخي أن الاستشهاد بأقوال أهل التخصص في الموضوع الذي لهم فيه باع لا ضير فيه، بل هو ضابط منهجي مهم في سياق بناء الأفكار. ذلك أن العلم حلقات متصلة تبنى بعضها على بعض، ويستفيد اللاحق من السابق بشكل تراكمي. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن كثيراً من المثقفين المحسوبين على المسلمين يضيقون ذرعاً عندما تستشهد بأحد رموزنا الثقافية الإسلامية، سواء القديمة أو الجديدة، ويعدون ذلك تحجراً وهروباً واحتماءً بأفكار قديمة.
غير أنهم سرعان ما يرحبون بانفتاحنا وعلمنا ونهجنا لما نستشهد بأحد الغربيين أو بالتعبير الأدق لما نذكر أحد الرموز الفكرية التي تنتمي عقيدياً إلى عالم الكفر، ومعرفياً إلى الجاهلية. فلا يرون حرجاً في الاستشهاد بأحد رموز الثقافة الغربية، بل يعدون ذلك نضجاً من الكاتب أو الباحث ؛ لأنه استطاع أن ينفتح على الآخر، وأن يمد معه جسور الحوار والتثاقف.

ولا شك أن هناك خلطاً منهجياً بالغ الخطورة في هذه المسألة، وذلك من وجهين؛ أولاً: أن علماءنا في نتاجهم العلمي مهما أصابوا أو أخطؤوا فإنهم أقرب إلينا منهجياً ومعرفياً، ومصادرهم أوسع من مصادر الغربيين، وآلياتهم الفكرية التي أنتجوا بها معارفهم أقرب إلى "مجال التداول الإسلامي" وألصق بالقيم الثقافية الإسلامية الأصيلة، فإنهم على الأقل قد استناروا واستفادوا من نبع الوحي والنبوة، أي: القرآن والسنة، بينما المفكرون الغربيون تهيمن عليهم القيم الثقافية المادية اللا دينية أو الدينية المحرفة.
ثانياً: في سياق تأصيل الأفكار، فإنه من السليم منهجياً أن الباحث يستند أولاً على تراثه الثقافي الذي نشأ فيه وأشرب روحه، ثم بعد ذلك يتجاوز إلى التراث الثقافي الأجنبي، ورائده في ذلك البحث عن الحكمة أنى وجدها فهو أحق بها.

ولذلك فإننا طالما لم نتخلص من الدونية تجاه الغربيين، ولم نتخلص من مرض إهمال أهمية الأفكار فإننا سنبقى نراوح المكان ولا نثمن أو نراكم أو نطور أي خبرة في هذا المجال، وإلا كيف نتمكن من التواصل مع سلفنا من أهل العلم إذا لم نؤسس تقاليد معرفية ومنهجية في التعامل مع الأفكار وأصحاب الأفكار الذين سبقونا على طريق العلم من أجل أمتنا ومن أجل ديننا؟
وطالما اعترفنا بمرجعية مدرسة فيينا أو فرانكفورت أو بمرجعيية هيجل أو كيسنجر، ولم نعترف بمرجعية ابن تيمية أو ابن باديس أو ابن نبي أو مدرسة دمشق أو المدينة أو الكوفة أو فاس أو الأزهر فإننا سنبقى دائماً مستضعفين فكرياً، متخلفين في بناء أنساقنا الفكرية والثقافية الإسلامية الأصيلة.

وإننا سنبقى نهدر الطاقات ؛ لأننا لم نصل بعد إلى حالة الاستعلاء الإيماني التي يأمرنا بها ديننا، والتي ينبغي بعثها ومنهجتها وتوظيفها في بعث الهمم، والاستعلاء هنا هو الاستعلاء الباعث على الرؤية المتزنة وليس الباعث على التكبر الأجوف الذي يفتقد الحكمة، وفي سياق التأصيل للأفكار فإن الاستعلاء يكون مفتاحاً لاكتشاف التميز في الأفكار بين المفكرين المسلمين والمدارس الفكرية الإسلامية، وبين المفكرين والمدارس الفكرية الأخرى.

فبينما تكون الأولى نبعها الوحي ومنطلقها مجال التداول الإسلامي وتوظف آليات ثقافية وعلمية إسلامية، فإن الأخرى لها مرجعيات كافرة أو مادية أو منحرفة، ولها سياق تاريخي وحضاري مغاير لما نتصوره ونتبناه من تصورات وقيم، وما ننتمي إليه من نسق تاريخي وثقافي وحضاري إسلامي.

وعليه فإن وعينا بهذه المفارقات يؤهلنا لأن نكون أكثر وعياً بقيمتنا وقيمة الأفكار عموماً، ويجعلنا أكثر نقداً للأفكار الوافدة، وأكثر إنصافاً لأنفسنا ولمفكرينا وعلمائنا ومدارسنا الفكرية القديمة والحديثة.