في الصيف ضيَّعتِ اللبن
6 صفر 1426

إن المتأمل لحال كثير من الدعوات والنداءات الإصلاحية أو السياسية أو الاجتماعية.. سواءً ‏كانت جماعات أو وحداناً؛ معرضة للنجاح، أو الفشل، أو الموت في مهدها.

وكل واحد من أصحاب هذه الدعوات أو النداءات يبذل طاقته، وما أوتي من قوة لتحقيق بغيته، ويطمع ويحلم ‏بالنجاح، وقطف ثمرة دعوته؛ فمن مستعجل لقطف نتائج جهده، ومشاهدة سعيه على الواقع، ومن لا يعنيه معاينة ‏جهود ثمرته، أو السماع بها ولو من بعد؛ لعلمه اليقين أنه ليس من لوازم نجاح الدعوة أو الفكرة أن تُعاين تمش على ‏الأرض، ويستظل بظلالها؛ لأنه سيأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي نبي وليس معه أحد، وكلاهما قد أدى ما عليه، وحاز ‏السبق في دعوته، ولأنه قد تأتي أجيال قادمة ولو بعد سنين تنهل من ثمرة هذه الدعوة، وينير دربها تلك الفكرة التي ‏سُلت السيوف من أجلها، وتستظل بظلال ذالك المنهج الذي عانت الروح المشاق من أجله.

ومن بدهيات التاريخ أنه لا يمكن تحقيق غاية من الغايات، أو مبدأ من المبادئ إلا بالثبات عليه، والمنافحة والذود ‏عنه، والتضحية من أجله، وتحمل تتبعات الصمود، وعدم النظر إلى بنيات الطريق.

ومما لا شك فيه أن نجاح الدعوة أو الإصلاح مرهون بأسس ومقومات النجاح، من بدأ الهم بالدعوة إلى ‏ما بعد الانتهاء؛ إذ لا بد لأي مشروع أن يمر بمرحلة الهم ثم التفكير، ثم التخطيط الذي على إثره يبدأ العمل والتكوين ‏، ومن ثم يتحول إلى عالم الوجود الذي يتتطلب الحفاظ عليه والإمساك به؛ لأنه رأس مال الدعوة الناتج عن جهود ‏معنوية وحسية استغرقت وقتاً ليس بالقليل.

وهذه الأسس لا بد من النظر فيها بين الفينة والأخرى : هل تم التقيد والامتثال بها، والسير على ما رسمته؟ ‏وتمحيصها من الدخل، ونزع ما يعلق بها من شوائب.

وهذه الأسس والمقومات التي لا بد من تواجدها في الحركات الإصلاحية أو الدعوية أو السياسية... تزيد تارة في ‏دعوة، وتنقص في أخرى، وبعضها يصلح في حركة، وآخر لا يصلح للحركة الأخرى فكل بحسبه.

معرفة طبيعة المستهدفين بالدعوة والطرح، وقابليتهم لهذه الدعوة من عدمها، وأي الأفكار والأطروحات ‏يبدأ بها، والاستعداد بالأدلة والبراهين التي تساند الطرح " يا معاذ إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم ‏إليه شهادة أن لا إله إلا الله...... ".

فليدخل مع الباب الذي يؤدي إلى نجاح دعوته؛ لا مع الباب الذي يهتم برفع أسهم مؤيديه وكثرة الملتفين حوله ‏أو استباق مصالح وأغراض شخصية " مطرزة بمصالح دينية، أو اجتماعية "، فيطرح بعض الأطروحات التي تدغدغ ‏مشاعر السامعين، وتصرف الأعناق إليه حتى وإن كانت من متطلبات دعوته؛ إلا أنه لم يوفق في طرحها، إما أنه ‏طرحها بالعلن ومكانها في السر، أو بنفس الآلية التي طرحها من سبقه فأدت إلى القضاء على دعوته في مهدها، أو ‏الحيلولة دون الوصول إلى المراد، ومن ثم يبدأ انحسار مد دعوته أو فكره، أو أن تلاحقه المتاعب والمصائب من جراء ‏هذا الطرح، فلو أنه غير مساره قليلاً أو أجل طرحه إلى غد، أو بآلية غير الآلية التي طرحها فيه لسارت سفينته دعوته ‏بأمان، ولكان بغنية هو ومؤيديه من تلك الصعاب.

فلقوة تلك المصائب، وما حلّ بطرحه الذي على إثره تأخر مد دعوته يبدأ بإعادة حسابته، والنظر في ‏صف أورقه؛ ومن ثم يتبنى آراء وأفكار، ويطرح طروحات تناهض ما سبق طرحه، وكان من قبل يتحاشاها؛ بحجة ‏سحب البساط من تحت الغير تارة، و بحجة أن هناك ثوابت ومتغيرات تارة أخرى.‏

التاريخ والواقع فيهما دروس وعبر فلا بد لصاحب الدعوة أن يستفيد من الدعوات والحركات الأخرى ، سواءً ‏كانت السابقة أم الحاضرة فيظفر بالإيجابيات ويتحاشى السلبيات من طريق إيصال الدعوة أو لغة الخطاب أو أسلوب ‏الطرح.
إلا أن كثيراً من الإصلاحيين لم يستفد ممن حوله، وبدأ من حيث انتهى الناس مع أن هاجس الخوف من دعوته هو ‏الهاجس الذي استشعره أولئك القوم الذي على إثره وقفوا لتلك النداءات والدعوات بالمرصاد، وعملوا كل ما ‏يستطيعونه من قوة من أجل وأد تلك الحركات؛ والحيلولة بينها وبين تغلغله في قلوب الأمة ففعلوا الممنوع قبل ‏المشروع بأصحاب تلك الدعوات.‏

فسار البعض بدعوته كأنه أتى بشيء في توصيل دعوته، لم يأتي به أصاحب تلك الحركات، مع أن هناك إشارات ‏من عَلية القوم ناصعة بالبنان إلى تلك الحركات ما ذا حل بها، وأصابع أُخر تشير إلى أن ما حل بتلك الحركة لا يمنع أن ‏يحل بهذه الحركة؛ بل قد يكون أشد، وأصحاب هذه الأصابع الفعل أسهل عليهم من القول، ومع هذا كله استمر ‏بدعوته وطرح أفكاره، ونداءاته وصيحاته، وكأن الأمر لا يعنيه، يرى أنه شتان بين دعوته وطرحه، وموقف الناس ‏منها، وبين تلك الدعوات، والقوم يترقبون حالة الصفر، فإذا حلت ساعة الصفر حينئذ لا ينفع صوت ولا همس.

أصوات أصحاب هذه النداءات تتفاوت في قبول الناس لها، ورواجها فيما بينهم، وإصغاء الأذان لها، ‏وجذب الأفئدة إليها، وتأثيرها في جموع جماهير الأمة؛ لصدقها، ولصراحتها، ولاحترامها لعقول مستمعيها، ولتجديد ‏طرحها، ولنوعية أفكارها.
فحجب الأصوات الصادقة، وتجفيف منابر الأصوات الواعدة، وتكميم الأفواه الصريحة، والحيلولة بين تلك ‏الصيحات وجموع الأمة خوفاً من التأليب، وخشية التأثير على جماً غفيراً، وأناسي كثيراً، واستغلال العاطفة، وتغير ‏موجات تفكير الجموع، وإثراء العقول بما لا يراد لها، والنقلة فيما تريده الأمة.

ومن ثم ترك الزمام لهذه الأصوات، وإعطائها منابر لم تفكر في يوم من الأيام أن تصعد عليها، وفُتحَ لها مجالات ‏كانت ممنوعة من الاقتراب منها فضلاً عن ولوجها، ومكنت من وسائل يصعب عليها استخدامها.. لخروج ‏أصوات أكثر صراحة، وأقوى تأثيراً، ورُجي منها أن تكون أصدق، وأصوات لها تبعات عالمياً بدلاً ما كانت محلية أو ‏إقليمية، أو أن الصيحات السابقة خفت أو اختفت بالكلية، أو أنها طرحت طروحات يُتمنى أن تكون طرحت من قبل، ‏أو أنها أظهرت نواي حسنة.

فهذه الأصوات التي تُرك لها الزمام لن تأتي بما يُؤمل منها ولا نصيفه، فكثير من هذه الأصوات كانت في يوم من ‏الأيام تشكك في مصداقية الصوت النابع من هذه المنابر التي مكنوا منها ونزاهته، وأنه ترسخ لدى الكثير صعوبة ‏مصداقية هذه الأصوات، وأن هناك خطوطاً حمراء تمنع من كلمة الحق، وأن هناك أصواتاً إنما هي بلابل تكرر ما تمليه ‏سياسة البلد لكن بلباس الدين والإصلاح والحرص على الأمة.

تبني آراء وطروحات لم تتخمر بعد :‏
إن المشاهد قبل بضعت حجج يشاهد كم هائل من الأطروحات على الساحتين؛ تفوه بها البعض بقوة ولا أدل على ‏ذلك إلا مراهنته عليها؛ منها ما هي مصيريه، وقسط منها لو أنها في عهد الخطاب لجمع لها أهل العُدوَة الدنيا، ‏وكثير منها معضلات فتصورها وتفهمها تحتاج إلى وقت أكثر بكثير من الوقت الذي طرحت بعده، فما بالك بتبنيها ‏والمنافحة عنها؛ فنتج منها تبعات على صاحبها قبل من حوله، فلو أنه أخرها إلى غد، أو قلبها ظهراً لبطن لخرج ‏بنظريات تناهض ما طرحه ونافح عنه، وما الطروحات التي طار بها الركبان على إثر أحادث سبتمبر إلا شاهد أن ما ‏طرُح من قبل خال من أسس الطرح ومقوماته.

والاستعجال بالطرح سببه تصور سهولتها أو السبق في الطرح، أو الإشارة بالبنان فكم انصرفت أنظار إلى ‏أناس بعد طروحات وآراء فأخرجتهم من ضمير الغيبة إلى ضمير الظاهر أو الواقع الجماهيري، أو دغدغة المشاعر.
واستَنْوَقَ الجملُ فتذكر قول الشاعر:


صار البُغاة بُزاة حائمين على الآفا ق في وقتنا واستنوق الجمل

فبعدما تم الوصول إلى قمة الجبل على أكتاف آراء وطروحات، والتعضد على الغير لا سيما الجماهرية نجده يسقط ‏هذا، ويتهكم ممن عضده بالأسلوب ذاته الذي سله عليه مناوئيه من قبل، وينقض على طروحاته التي أوصلته إلى هذه ‏القمة.

مما تطلبه المبادئ والمناهج السير ببطء، وعلى اطمئنان، مع صبر على قوارف الدهر صابر العارف البصير ‏الواثق من الغاية المرسومة، فالذي لا يتم في الجولة الأول أو الثانية يتم في الرابعة أو المئة، أو الألف، فالزمن ممتد ‏والغاية واضحة.

إن النجاح مع الأناة ببطئه خير من الإخفاق بالإسراع ‏مع علمك أن الخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق، باقية بقاءه في الأرض.‏

الازدواجية في الطرح إما في الأفكار، أو المناهج، أو السياسة أو العلاقة مع الأخر، أو الاستنتاجات من ‏خلال الرؤى المستقبلي أو التحليلات.
فبالأمس القريب ندى صوته لم يبرح آذاننا ببدء المفاصلة، وتميز الصف، واستبعاد الجلوس تحت مظلة واحدة.‏
أما اليوم فخرج علينا باستحسان المجالسة ومد الجسور، والجلوس على طاولة واحدة.

وأنموذج آخر، قبل برهة من الزمن لغة القوة هي الأنجع في رفع تسلط وهيمنة الأعداء، وهي أقرب وسيلة في رفع ‏الظلم، وكف أيادي الظالم؛ لأن الذي لم يفهم بلغة الإشارة فلن يفهم إلا بصريح العبارة.
أما اليوم فالأنسب هو التلميح لا التصريح، المدارات لا المهاترات، التعايش لا التنافر، مع أن العدو والظالم هو ما زال إلى اليوم في غطرسته وتسلطه، واستبداده إذا لم يكن أشد.

إذا كنا نحذر في ندواتنا وجلساتنا لاسيما الخاصة منها أن نسلك منهج جماعة الأم في مصر من الأمصار؛ لأنه ‏لم يتحقق لهم ما رسموه لأنفسهم ولا معشاره مع طوال المدة وتعدد مراحلها، بل إن خصمهم اللدود استفاد منها أكبر، ‏وذلك فيما نحفظه من نتاجنا العلمي والفكري والواقعي.

فلماذا نحن في هذه الأيام نسلك خطوطاً رئيسة سلكها أصحاب ذلك المصر، واستفاد منها عدوهم، أو أننا قوم لا ‏نؤمن بحرارة عصا الجلاد إلا بعد مروره على أظهرنا، و لا نحس بالذلة، والإهانة، وتبعات الصفعات إلا بعد تكرارها ‏، أو لا نستيقظ من نومنا وغفلتنا إلا بعد ما يوقظنا الآخر.

وإن نسينا فإننا لا نسى الثناء المفرط، والإطراء العاطفي، والمدح اللامحدود على فئام من الناس لاسيما ‏الشباب منهم لوعيهم، وإدراكهم، وحسن تعاملهم مع كل جديد، ولقبولهم للحق من أين كان، ولردهم لغير الحق ‏إلى صاحبه وعدم الأخذ به ولو كان من عِلية القوم وفقيههم، ولحبهم لسماع الحقيقة، قلنا ذلك لما أصغت الأذان إلينا ‏، واشرأبت الأفئدة إلى ما نقول، ولقيت آراؤنا وأفكارنا قبولاً ورواجاً، وطار بطروحاتنا الركبان، أما في الأيام ‏الأخيرة قَلبنا المجن ظهراً لبطن فبدأنا نسمع ونقرأ أن المفكر يجد صعوبة لطرح ما يكنه في ضميره من جديد: طروحات ‏وأفكار وحلول لصعوبة تعامل المجتمع مع كل ما هو جديد وغريب، ولغة الحوار بعيدة المنال، وإنما يُجيدون لغة ‏النار والحديد، وأننا لم نربِ مجتمعنا على التفاهم مع الآخر، وأن الكثير يتصف بالانغلاق وعدم الشفافية، ووجدنا من ‏ينافح بقوة على مورثه وعادته مع أنها مجانبة للصواب. وهناك حواجز نفسية عميقة الجذور ومترسبة نُشوء عليها تقف ‏حائطاً صلداً أمام أية محاولات للنقلة بالوعي، والتوسعة بمدارك التفكير، وبدأنا نحس أن الناس بدؤوا يتفرقعون عنا ‏جمعات ووحداناً، وتذكرنا شئنا أم أبينا المثل العربي: " يداك أوكتا وفوك نفخ"!

وفي الختام ليكن في مخيلتك أن المبادئ والعقائد والقيم لا يمكن المساومة عليها، أو التشكيك فيها، أو زحزحة ‏الناس عنها بخطبة مرصعة بالألفاظ تلقى هنا وهناك، أو بمقال منمق بالعبارات يسطر بين دفتي كتاب أو صحيفة سيارة، ‏أو بمداخلة على أحد القنوات الفضائية، أو تكشط بجرة قلم، فإن مفارقة كل معتاد ومألوف، والانتقال شديد على ‏مَنْ رامَه، ولو كان باطلاً لاسيما إذا كان الانتقال دفعة واحدة.

ولأهمية الثبات ولاستمرارية على المبدأ فإن من تخلى عنه أو ساوم عليه يصغر في أعين الناس، وينفضون من حوله ‏‏، وأما من ثبت فإن الأعناق تشرأب إليه إجلالاً وتقديراً وولاءً، والتاريخ والواقع يصدّق ذلك أو يكذبه.

أخي: نحن مقبلون على مواسم صيفٍ فلا تضيع اللبن، ولتكن على حذر بأن تسمع من الآخرين: " يداك أوكتا وفوك ‏نفخ "، و " إذا فات الفوت فلا ينفع الصوت ".
وصلى الله وسلم على المبعوثين رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.