تقويم الذات (بين المدح والذم)
27 ربيع الثاني 1426
د. خالد رُوشه

أن يقدر الناس قدرك من العلم أو المهارة أو الأثر الدال عليك فذاك أمر متعارف عليه.. أما أن تقدر نفسك أو تقيمها أو تحدد قدرها سواء في مواطن الحاجة إلى ذلك أو عدمه فذاك الأمر الصعب، وهو المستنكر عند كثير من مستقبلي الرسالة الدعوية أو الموظفين فيها..
فقد يضطر الداعية فرداً كان أو مسؤولاً إلى الحديث عن نفسه مدحاً أو ذماً، ويتباين حجم هذا الحديث من شخص لآخر كما يختلف خفة وجنوحاً، وتختلف الدوافع له..
فقد يتحول تقييم الذات من التواضع الملازم لنقد الشخص لنفسه إلي التكلف، ومن المدح التعريفي إلي الغرور المذموم وتتباين استجابة الآخرين كذلك لكل من المدح والذم معا بين مصدق ومكذب، أو بين راض مشارك أو رافض معارض.
ومن جهة أخري قد يلجأ الداعية المربي أو المعلم لتبيان قدر نفسه بالحق بمقدار الخير الذي عنده، ووفق موازين شرعية صحيحة ولكن قصور الفهم عند غيره يؤدي بهم إلى نقده وتجريمه..

هل أذم نفسي على الملأ؟!!
روى البخاري ومسلم قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي"
يقول الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: " إن المراد طلب الخير حتى بالفأل الحق ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه ما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة ويلحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول: لست بطيب، بل يقول: ضعيف " (1)
مما يدل علي كراهية مثل تلك الأقوال أمام الناس وأنها ليست من التواضع وإن كان صاحبها صادقاً لما في ذلك من أثر تربوي سيئ على النفس القائلة والنفس السامعة.. كمحاولة إظهار فضل النفس وتواضعها فالأمر أقبح وأسوأ وهو من الرياء المبطن والتكلف المذموم..

يقول الحسن: " ذم الرجل نفسه في العلانية، مدح لها في السر" ويقول: " من أظهر عيب نفسه فقد زكاها "
ـ وقد يحصل أحياناً أن ينقد المرء نفسه حتى ينسحب من تكليف أو نتيجة ضعف ثقة بالنفس.. أما إذا أراد الإنسان معاتبة نفسه ورد كيد الشيطان عنه ومحاسبة ذاته فهذا كله أمر حسن، ولكن بشرط أن يفعله بينه وبين ربه لا أمام الناس وإلا تحول إلى نوع من الغرور..(2)

بين المحاسبة وذم النفس:
(إن محاسبة النفس – وهي التمييز بين ماله وما عليه – هي الأساس الأول للتوبة، بل يصح أن نقول: إن التوبة واقعة بين محاسبتين، قبلها تقتضي وجوبها وبعدها تقتضي حفظها قال الله –تعالى-: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " فأمر _سبحانه_ أن ينظر المرء إلى ما قدم لغد، وهذا يقتضي محاسبتها على ذلك.
وقال عمر: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ".. وقال الحسن " المؤمن قوام على نفسه يحاسبها ") (3)

ومن مقتضيات المحاسبة الشرعية توبيخ النفس ومعاتبتها وذمها لتقويمها فالنقد للنفس والمعاتبة في الخلوات هو المطلوب ويزداد عز المؤمن وتطمئن نفسه كلما رآها مقصرة واستصغر عمله أمام ربه وبعض الناس يخلط بين المحاسبة – التي تقتضي ذم النفس سرا – وبين الحديث عن نفسه وذمها علنا وذكر عيوبها أمام الناس فيظن أن ذكره لعيوب نفسه ومعاصيها وتقصيرها من الدين والأمر ليس كذلك فإن ذكر الذنوب والمعاصي ومذام النفس لا يصلح إلا في إطار ضيق للغاية له محدداته التي سنحاول تبيانها

مديح النفس.. بين العجب والنصح للمسلمين:
أما مدح الإنسان نفسه فالأصل فيه عدم الجواز: قال _تعالى_: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " وهذا سواء كان بينه وبين نفسه أو بينه وبين الناس، بل إن الذاتية و كثرة مدح النفس تولد الأمراض القلبية الكثيرة كحب الإمارة والرئاسة والكبر والغرور وحسد الغير.
ولكن قد يستثنى من هذا الأصل في عدم جواز مدح النفس حالات يحددها عمل المصلحة الشرعية:

قال النووي _رحمه الله_: اعلم أن ذكر محاسن نفسه ضربان: مذموم ومحبوب... فالمذموم أن يذكره للافتخار وإظهار الارتفاع والتميز على الأقران وشبه ذلك، والمحبوب: أن يكون فيه مصلحة دينية. (4)

وقال ابن حجر في شرحه تعليقا على حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_: " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " أخرجاه في الصحيحين ": وفيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو وقد مدح عثمان نفسه في وقت الحاجة.. حيث قال محاججاً عن نفسه: ألستم تعلمون أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتها.
قال ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث: وفيه جواز تحدث الرجل بما فيه عند الاحتياج إلى ذلك لدفع مضرة أو تحصيل منفعة، وإنما يكره ذلك عند المفاخرة والمكاثرة والعجب. (5)

كما روى البخاري عن ابن مسعود أنه قال: " والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت ولو أعلم أحداً أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه "
وكذا قول الله _تعالى_: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: من الآية55) قال القرطبي: " دلت الآية على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل"(6)

قال ابن القيم: " فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك ليكثر به من يحبه الله ورسوله من الخير فهو محمود وهذا غير من أخبر بذلك ليتكثر بذلك عند الناس ويتعظم وهذا ما يجازيه الله بمقت الناس والصغر في عيونهم والأول يكبره ويكثره في قلوبهم وعيونهم وإنما الأعمال بالنيات، وكذلك إذا أثنى الرجل على نفسه ليخلص بذلك من مظلمة وشر أو ليستوفي بذلك مقالة يحتاج فيها إلى التعريف بحاله أو ليقطع عنه أطماع السفلة فيه أو عند خطبته إلى من لا يعرف حاله " (7)

أحوال جواز تقديم النفس بميزاتها وذكر محاسنها أمام الناس:
وقد حاول بعض العلماء والباحثين حصر المواطن والأحوال التي يجوز فيها تقديم الإنسان نفسه بمحاسنها ومميزاتها للآخرين، وهذه بعض منها:
1- الدفاع عن النفس أو إظهار الصواب في مظلمة متنازع عليها.
2- تعريف الإنسان بنفسه عند الإقبال على عمل أو مهمة تحتاج الثقة فيه، وتتطلب وثوق العاملين معه فيه.
3- في مواطن يكون عز الإسلام فيها ذكره لميزاته.
4- الانتصاب كمعلم وقدوة
5- عندما لا يكون هناك من يصلح لمهمة دعوية أو شرعية وهو يعلم من نفسه إقامة الدين فيها.
هذه بعض الأحوال التي يجوز فيها مدح النفس.

التوجه التربوي لتقويم الذات.. هدفه ومحدداته:
تتنازع النفس البشرية تنازعات مختلفة تجعلها أكثر ما تكون اهتماماً بحكم الناس عليها أو رأى الناس فيها، ولذلك حذر الشرع من مراءاة الناس ومن العمل بغية مدحهم له بل سماه النبي _صلى الله عليه وسلم_: " الشرك الخفي " وقال: " إنه أخفى من دبيب النمل " أخرجه أحمد , وفى الصحيحين عن جندب بن عبد الله قول النبي _صلى الله عليه وسلم_ " من سمع سمع الله به ومن يراء راء الله به "..
فأكثر الناس يحبون تجميل أنفسهم أمام بعضهم وذكر محاسنهم والمبالغة فيها وإنكار مساويهم وغض الطرف عنها..
وإنما يهدف حديثنا عن تقويم الذات عن وضع الأطر الشرعية والتربوية للاستفادة بالمباح الجائز منها والممنوع المرغوب عنه منها..

والأمر في ذلك محدد بمحددات شرعية ذكرنا بعضها، كما أنه مؤطر بأطر تربوية لابد من تحديدها..
أولاً: ينبغي تربية المؤمن على استواء مدح الناس وذمهم عنده، وألا يرتجى من الناس ثواباً، وأن يكون عمله كله لله وألا يزيد إتقاناً في عمله بمدحهم له ولا يقصر فيه بذمهم له أو عدم التفاتهم له، والحق أن هذه الصفة يفتقدها كثير من الشباب المسلم الذي ربط عمله وإنجازه بشكر الناس أو عيبهم له فقعد عن التقدم وكسل عن التطور.

ثانياً: القائد في الإسلام لا يولى مسؤولية لأحد رغب فيها ولا سألها ولا تاقت نفسه إليها، بل على العكس من ذلك (إنا لا نوليها من سألها).. ذلك إن حب الرئاسة والإمارة من مفسدات النفس ومهلكات الأخلاق بل في الحديث الثابت قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "

ثالثا: قد يقبل المربي من متعلميه بعض المواقف والأقوال مثل (أن يبدي أحدهم أنه أعلم الناس بالبلد الفلاني أو بمنطقة كذا أو أنه أعلم الناس بالقوم المعينين أو بالحدث المعين أو بالشخصية الفلانية أو مثال ذلك).

وقد يرى المرء من فعل العلماء السابقين وقولهم ما يبدو منه مراح آخر في ذلك الإطار، فمن ذلك ما كتبه إمام الحرمين يصف كتابه (النظامي) بقوله: قد تقدم الكتاب محتوياً على عجب العجاب ومنطوياً على لب الألباب أحدوثة على كر العصر وغرة على جبهة الدهر.....إلى آخر كلامه.

ومن ذلك ما كتبه السيوطي فى مقدمة الأشباه والنظائر " وإذا تأملت كتابي هذا علمت أنه نخبة عمر وزبدة دهر حوى على المباحث المهمات وأعان على نزول الملمات وأنار مشكلات المسائل المدلهمات...إلى آخر كلامه
والحديث يطول في سياق ذلك ومقصودنا البيان والإعلام دون الإسهاب والإطناب والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل..

___________________
(1) فتح الباري – ابن حجر العسقلاني - 10\564
(2) تقويم الذات – عادل الشويخ- ص9 وما بعدها
(3) مدارج السالكين – ابن القيم – 1\115
(4) الأذكار للنووي 238
(5) فتح الباري 5\408
(6) القرطبي تفسير سورة يوسف
(7) مفتاح دار السعادة- ابن القيم – 1\139