ماذا سيحدث في مصر.. ترميم أم إصلاح أم تغير؟

مصر.. هي الرقم الرئيس في معادلات المنطقة، سلباً أو إيجاباً، لا يمكن فهم ما يحدث لها أو فيها.. فضلاً عن القدرة على رؤية مستقبلية لما يمكن أن يحدث فيها، ما لم تر بوضوح الخطوط والأرقام المتقاطعة معها.. إقليميا و دوليا، كما أنه يلزم لهذا الفهم معرفة الطبيعة الخاصة لدور السلطة في مصر.

أمريكا.. والتغيير!!
قد يكون من نافلة القول أن نشرح الأهداف الحقيقية والمعني الحقيقي لمصطلح التغيير في القاموس الأمريكي، ولعل الأجدى هو فهم لماذا تطرح السياسة الأمريكية هذا الشعار، ليس في مصر وحدها أو المنطقة العربية فحسب، ولكن في العالم كله، وهي تستخدم تكتيكات مختلفة للوصول إلي التغييرات التي تنشدها حسب المكان والزمان والتركيبات الديموجرافية.

فإذا ما خصصنا الكلام لمصر.. فالملاحظات الأهم هي:
• أن السيناريو الأمريكي للتغيير في مصر قد تغير أسلوبه ومداه الزمني بعد هزيمة الخطة الأمريكية في العراق.
• أن القوى التي تعتمد عليها أمريكا في الواقع الاجتماعي المصري هي لم تزل بالأساس قوى اقتصادية لم تحقق أشكالها السياسية المستقلة عن السلطة بعد.
• أن نمو واتساع تأثير المقاومة للمشروع الأمريكي والصهيوني في فلسطين والعراق، وسائر بلاد المنطقة العربية، والعالم الإسلامي، لا يسمح بالمغامرة الأمريكية لزعزعة نظام متعاون لإحلال نظام مصنوع أمريكيا، فالفشل في هذه المغامرة يقلب جميع الحسابات ويهدد مجمل المخطط الأمريكي.
• الصعود المتسارع لدور العقيدة الإسلامية في تشكيل وضبط المواقف السياسية لأعداد متزايدة من الجمهور الحي المشارك في الحياة السياسية، واعتماد العقيدة كمرجعية وحيدة لدى القطاع الرئيسي من المصريين، مال بالمخطط الأمريكي إلي إعطاء المزيد من الوقت لإعداد بديل مطابق لشروط وتنازلات المرحلة القادمة.

ولذلك نجد أن تينت (رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السابق) بعد أن قال في محاضرة في إحدى الجامعات البريطانية قبل احتلال العراق: "إن التغيير في المنطقة العربية آت بأسرع مما يتصور البعض، وحيث لا يحسب البعض، فبعد الصداميين سيأتي الدور على السعوديين والمباركيين".. بينما تؤكد الآن الإدارة الأمريكية أنها توافق علي إتمام التغيير من الداخل، وبما يتناسب مع ظروف وتقاليد كل بلد.. وتؤكد الدراسات الجادة الصادرة عن مراكز الأبحاث الأمريكية أن التغيير المطلوب يحتاج إلي فترة إعداد تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، وتشير التحركات واللقاءات الرسمية الأخيرة بين مصر وأمريكا أن هذه المهلة قد تم إقرارها، وأن الإدارة والسياسة الأمريكية سوف تستخدم هذه المهلة لنقل مقاليد الأمور تدريجيا، بالضغوط الاقتصادية والسياسية، إلي "كرازيات" جاهزين للمهمة، ولإحداث أكبر قدر من الفوضى في الساحة السياسية، ولعل التركيز على اتفاقية التجارة في زيارة د. نظيف الأخيرة إحدى مؤشرات هذا التوجه، والتي سبقتها الكويز.

أزمة النظام في الإصلاح!!
هل يستطيع النظام المصري القيام بعملية الإصلاح؟! وهل يريد؟!.. لقد صرح الرئيس المصري حسني مبارك أن عملية الإصلاح تجري منذ مدة طويلة، وأن تعديل المادة الخاصة بالاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية ليس بداية الإصلاح، ولكنه خطوة على طريق الإصلاح الذي بدأ منذ مدة طويلة!!

فما الذي يطرحه الواقع من إمكانية لقيام النظام بعملية إصلاح حقيقية، تحقق القضاء علي الفساد وتداول السلطة والشفافية، والحفاظ علي العقيدة والقيم والثقافة، وما هي الشروط اللازمة للقيام بعملية الإصلاح هذه..
الحريات وحقوق الإنسان..
وقد تراوحت الفترات الأربع الرئاسية السابقة بين التوقف عن سن القوانين المعززة للحريات (المدة الأولى) وبين الإفراط في التشريعات المقيدة للحريات، بل وقد اتسمت التشريعات بفقدان التجريد.. والأهم أن السلطة لم تلتزم بهذه التشريعات، فمارست التعذيب المنهجي في المعتقلات وأقسام الشرطة، وامتنعت عن تنفيذ أحكام القضاء (جريدة الشعب وحزب العمل)، كما مارست سياسة التوسع في الاعتقال، حتى خارج قانون الطوارئ، وحرمت كل تمثيلات التيار الإسلامي من الحضور الشرعي، وما تزال وفق ما جاء في خطاب الرئيس مبارك أمام مؤتمر الإصلاح العربي الذي عقد بالإسكندرية قال: "يجب ألا يؤدي الأسلوب الإصلاحي المتبع إلى زعزعة الاستقرار، وألا يسمح بتولي قوى التطرف والتزمت لزمام الإصلاح".

شرعية النظام..
وهي ضرورة لتحقيق التوافق بين قوى المجتمع لإجراء عملية تغيير متوازنة، وقد تعرضت هذه الشرعية إلى العوار القانوني الفاضح بعد صدور مئات الأحكام ببطلان الانتخابات طوال العشرين عاما السابقة، فضلا عن النتائج المزورة للاستفتاءات، وما يترتب علي هذا من بطلان المنظومة التشريعية الصادرة عن مجالس مطعون في شرعيتها.. أما الشرعية الوطنية فقد تعرضت لإصابات قاتلة جراء مواقف السلطة من احتلال العراق، وتقديم تسهيلات للقوات الغازية الأمريكية، وكذلك مواقفها من اعتداءات الكيان الصهيوني ليس على الشعب الفلسطيني والمقدسات "القدس" و"الحرم القدسي" فحسب ولكن حتى علي الحدود المصرية، إضافة إلي الإخفاق المتعاظم في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة...الخ.

قوى التغيير..
ويقوم النظام السياسي الرسمي المصري على التعددية الحزبية، وقد عملت السلطة طوال العشرين سنة الماضية على تقليص الفعل السياسي ومنع تكوين الأحزاب الرسمية، حتى أنه بين جميع الأحزاب التي قامت في هذه المدة لم توافق لجنة الأحزاب إلا علي حزب واحد وتأسست الأحزاب الباقية بأحكام قضائية، وحوصرت هذه الأحزاب في مقارها، كما فرض عليها حصارا إعلاميا خانقا. وأدى التدخل في الانتخابات وتزويرها، بالإضافة إلي القمع البوليسي وتجميد الأحزاب "المارقة"، إلى تهميش هذه الأحزاب، بل وحصار الفضاء السياسي غير الرسمي أيضا وبنفس الأساليب القمعية، كما تم تهميش القوتين الأكثر فعالية في المجتمع: (الطبقة المتوسطة).. وذلك بالتزاوج الذي عقدته لجنة السياسات في الحزب الوطني بين السلطة ورجال الأعمال، والشرائح العليا من تكنوقراط تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ما أثمر تحالفا استراتيجيا بين الدولة والسوق علي حساب الطبقة الوسطي والطبقات العاملة، و(الشباب).. حيث اعتمدت السلطة احتكار جيل مبارك للقيادة في جميع مؤسسات الدولة، وأبعدت الأجيال الشابة والوسيطة عن أي مشاركة.
والنقاط الثلاث السابقة هي لوازم ضرورية التوافر لقيام القدرة علي التغيير، وبعيدا عن القدرة.. يأتي السؤال.. هل يرغبون؟!

الثمن الفادح الذي قد يترتب على التغيير لا يخيف السلطة وحدها. ولكن كما تقدم هو يخيف القوى الخارجية أيضا، بل والكثير من القوى الداخلية المطالبة به، إلا أن آليات تخفيض تكلفة التغيير ومخاطره يمكن معرفتها.. ولا تمثل عائقا مستحيلا.. بينما يمثل الفساد هذا العائق المستحيل، بعد أن تحول الفساد إلى نظام عام، فأي درجة من التغيير ستؤدي بالضرورة إلى الحاجة إلى مضاعفة السجون لاستيعاب المتورطين في قضايا الفساد من كافة المستويات، ما يعني أن جيشا يقبع جنوده في أدق وأعلى المراتب مستعد للقتال لتثبيت الأوضاع.. أو حتى التراجع بها إلى الخلف.

قوى التغيير.. من خارج النظام:
لقد استطاعت القوى السياسية محدودة العدد، بفضل الظرف الموضوعي المتفجر نضجا والظروف الدولية المواتية، أن تسقط هالة التقديس التي أحاطت بمنصب الرئيس ومؤسسة الرئاسة. وأعادت حركتها والتعاطي غير الكفء للسلطة مع الأزمات درجة من الحيوية للفعل السياسي، ويأتي خروج الإخوان المسلمين إلي الشارع في المرحلة الأخيرة في هذا السياق بعد أن تعرضت قيادات الجماعة لضغوط مستمرة من القواعد، و اعتراضات من عدد من كوادرها الوسيطة علي شكل وكيفية أداء الجماعة في الأحداث السياسية الداخلية والخارجية، وبعد أن صدر أكثر من تصريح بقبول القوى الكبرى للإخوان "الإسلاميين المعتدلين" كبديل للسلطة في مصر ودولا عربية أخرى. إلا أن قوة سياسية كالإخوان المسلمين قد تجد أن الظروف الإقليمية والدولية ستضعها، إذا ما استلمت السلطة، أمام العديد من الأسئلة الصعبة شرعيا وسياسيا.. كالكيان الصهيوني، القدس،المقاومة الفلسطينية، المقاومة العراقية، الاتفاقيات السياسية والتجارية الموقعة...إلخ. وهذا يطرح بالفعل الآن في مناقشاتهم، ومعروف أنها جميعا خطوط حمراء أمريكية وأوروبية. الأمر الذي يجعل المأزق يتخطى إخوان مصر إلى التنظيم الدولي ورؤوس أمواله واستثماراته وبنوكه.

لقد أدت مدة الركود السياسي الطويلة التي مرت بها مصر إلى تحجيم عملية التطور الاجتماعي، مما أدي إلى تصدع هياكله الاجتماعية والسياسية، وسقوط الاحترام عن القوانين، وتراجع منظومة القيم العامة، وتزايد الجنوح إلي العنف نتيجة انعدام إمكانية محاسبة السلطات العامة، وتركز السلطة الشديد الذي لم تعرفه حتى مدة الرئيس عبد الناصر.. وكل هذا لا يرشح سواء الإخوان المسلمين أو تجمعات المثقفين (كفاية، الجبهة الوطنية للتغيير) إلى الحصول علي الالتفاف الجماهيري الواسع المطلوب لمواجهة تحديات الوصول إلي السلطة.. وما بعد استلام السلطة في المدى المنظور، وإن كانت كل الظروف الداخلية والإقليمية و الدولية ترشح أدوار الإخوان المسلمين، وتجمعات المثقفين للتصاعد، بل وبدرجات متفاوتة من المساندة الدولية.. ولو إلي حين.

ما يخشى منه والحال كذلك، أن فكرة الاستقواء على النظام ولو بالشيطان، يمكن أن تلقى قبولا متزايدا.. خاصة مع اتجاه السلطة لمزيد من العنف.. وهذا ما بدأت بوادره، حتى في دوائر التيار الإسلامي داخل وخارج الإخوان المسلمين.. وهي قضية كان لابد من ذكرها، وإن احتاجت إلي مناقشة تفصيلية مستقلة، خاصة في غياب برنامج وطني وسياسي شامل متفق عليه.. حتى بين القوى المعارضة للنظام.

الآتي..ترميم قد ينتكس:
لقد وضعت العربة علي المنحدر، ولم يعد من الممكن أن تبقى في مكانها، وليس هناك أسفل.. بل هوة سحيقة، والقوى اللازمة للصعود بالعربة لم تتبلور بعد، والقوى المعادية للتطوير لا تستطيع خيرا من المراوحة يمينا ويسارا كسباً لبعض الوقت، وقد أقرت السلطة بضرورة التغيير والإصلاح، وهو إقرار ضمني منها بالجمود وعدم الصلاح، وقد توافقت رغبتها في البقاء إلي حين، مع حاجة القوى الكبرى -أمريكا وأوروبا- وخاصة أمريكا بعد العطب الذي أصاب آلتها الحربية في العراق- إلي بعض الوقت لترتيب الأوراق والقوى اللازمة لبرنامجها، داخليا وخارجيا، مع استخدام هذه المهلة لإضعاف قبضة النظم القائمة، ويأتي في هذا السياق تشجيع حركات التمرد الشعبية، وأحيانا حمايتها ودعمها (حدث هذا في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية في مرحلة استبدال النظم العسكرية)، بشرط ألا تكون مرتبطة بقاعدة عقائدية ولا جماهيرية تسمح لها بالاستقلال عن الحماية الخارجية، مع التأكيد على ضرب الحركات ذات التوجه الإسلامي.

المطروح إذن أمريكيا.. ومن النظام هي مهلة قد تصل إلى خمس سنوات، تجري فيها ترميمات شكلية خارجية.. وهذا ما أثبتته تعديلات المادة 76.. مع السماح ببعض الحراك الاجتماعي والسياسي المحدود لتغطية عملية تقديم البديل الذي تستكمل تجهيزاته خلال تلك المهلة.. وهو سيناريو يعطي إمكانية.. بل يفرض انتكاسات ضرورية للحفاظ علي أهدافه.

ويبقى أن نؤكد أن خمس سنوات من تصاعد المقاومة في العراق وفلسطين، وتفاعل الحراك السياسي في مصر مع هذا التصاعد، قد تطرح سيناريو، لن تقف حدوده عند التغيير في النظام المصري، بل والإقليمي، فمنذ احتلال العراق لم تعد عربة النظام المصري وحدها على المنحدر.