تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (1/4)
6 رمضان 1426

"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (آل عمران:64) تعرض لنا هذه الآية الكريمة جملةً من الأمور العَقَدية، ذات الأهمية البالغة في تحديد الخطوط الفاصلة بين الشرك والإيمان، وذلك بشكلٍ محدّد.. كما تفتح الطريق واسعاً، أمام فهم خطورة انجرار المسلمين وراء المشروعات الوضعية ومناهجها، ووراء المخططات الاستعمارية الحديثة، سواء أكان منشؤها أميركة والدول الكبرى.. أم أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله _عز وجل_.. وبذلك، فإنّ هذه الآية العظيمة تعرض لنا المفاهيم التالية : 1- مفهوم العبادة بشكلٍ عام، وعبادة الله عز وجل خاصةً . 2- تجنّب إشراك غيره سبحانه وتعالى في العبادة . 3- مفهوم الربوبية، وتجنّب اتخاذ غير الله _عز وجل_ ربّاً أو إلهاً . 4- المفاصلة العَقدية الكاملة بين أهل الإسلام وأهل الشرك أو الكفر . مناقشة المفاهيم الأربعة العبادة : هي التوجّه إلى الله _عز وجل_ بكل أمر، والخضوع إليه خضوعاً كاملاً، والتذلل له، مع إرفاق كل ذلك بمحبّته الكاملة _سبحانه وتعالى_.. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله _عز وجل_ : "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (النحل:36). والطاغوت : الوارد ذكره في الآية الكريمة الآنفة الذكر (.. وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..)، هو كل ما يُعبَد من دون الله _عز وجل_، وهو الذي يصرف الناس عن طريق الخير، وهو كذلك، كل سلطةٍ أو قوّةٍ أو قيادةٍ تتمرّد على شرع الله ومنهجه، ثم تحمل الناسَ على تنفيذ منهجٍ للحياة، تشرّعه من عندها، وتضعه للناس بيدها وفق رؤيتها أو هواها . والربّ : الوارد ذكره في الآية الأولى : ".. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.."، هو المدبِّر والمشرِّع، والسيّد، وصاحب السلطة العليا، أي : مَن يضع الشرائع والدساتير للناس لتكون لهم منهجاً لحياتهم.. أو : هو مَن يضع لهم (دِيناً) يعملون به ويحتكمون إلى ما جاء فيه.. في كل شؤون حياتهم . والدِّين : هو الذي يحدّد النظام والمنهج الفكري والعملي للسلطة العليا، وهو الشرع والقانون، وهو الذي يحدّد الحاكمية وسلطات السلطة العليا، ويحدّد طريقة الإذعان لها، كما يحدّد الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وفي هذا يقال مثلاً : (فلان دانَ الناسَ)، أي : قهرهم أو حملهم على الطاعة، كما يُقال : (دِنْتُهُ)، أي: سُسْتُهُ ومَلَكتُهُ . ولمزيدٍ من توضيح الصورة في شرح المفاهيم الآنفة الذكر.. نوضح معنى (الإله)، فنقول : الإله : هو الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والطاعة والخضوع التام . بعد شرح المصطلحات السابقة، نعود إلى الآية الكريمة التي بدأنا بها : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا.."، لنتساءل : هل يمكن للبشر أن يكونوا أرباباً ؟!.. وكيف يكون ذلك ؟!.. - الجواب واضح من الآية الكريمة نفسها : ".. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.."!.. أي : إنّ البشر يمكن أن يصيروا أرباباً.. لكن كيف ؟!.. - الجواب : بِسَنّهم تشريعاتٍ للناس، وفرض أوامرهم ومناهجهم ودساتيرهم الخاصة عليهم!.. ولتوضيح ذلك نسأل : لماذا يوضَع التشريع أو منهج الحياة ؟!.. - الجواب : لينفَّذ على الناس !.. فإذا سألنا أيضاً : ما مضمون التشريع أو منهج الحياة ؟!.. - الجواب : يتضمّن منهج الحياة : تنظيم كل جوانبها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأحوال الشخصية والتربوية والثقافية و.. أي : إنّ منهج الحياة ينظم شؤون الناس في كل أمرٍ خاصٍ أو عامٍ من حياتهم!.. وسبق أن قلنا : إنّ أي منهجٍ موضوعٍ، لا يوضَع إلا لينفَّذ على الناس، ولِيُحمَلوا على تنفيذه بقوّة القانون وسطوة السلطة !.. وهنا نسأل : - مَن الذي يَدَع الآخرين أن يتصرّفوا بكل أموره وشؤونه وحياته وعلاقاته ومأكله ومَشْربه ومَلْبَسِهِ و.. ؟!.. - الجواب : العبد.. نعم العبد الطائع المنقاد وحده، هو الذي يترك للآخرين التصرّف بشؤون حياته على ذلك النحو !.. وإذا عرفنا أنه من الأمور البديهية، أنّ لكلّ عبدٍ سيداً أو ربّاً.. فإننا سنصل إلى النتيجة النهائية التالية : النتيجة : يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضهم الآخر .. إلى فئتين : 1- أرباب يُشرِّعون ويضعون منهج الحياة . 2- وعبيد يطيعون وينفِّذون ما يضعه الأرباب لهم . وهذا بالضبط ما جاء القرآن الكريم ليدحضه ويلغيه من أساسه، بقول الله _عز وجل_ : ".. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.."!.. أي بمعنىً آخر : "لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، بتنفيذ منهجٍ موضوعٍ بأيدي البشر، غير منهج الله ودستوره وشرعه الذي أراده لهم"!.. بعد ذلك يمكن أن نسأل السؤال المهم التالي : مَن هو الذي يليق به أن ينظّم حياة الناس (أي : يضع لهم منهج حياتهم، ويُشرِف على تنفيذه)؟!.. للجواب على هذا السؤال، نعرض المثال التالي : عندما يخطئ الطبيب في تشخيص مرض المريض، فيصف له علاجاً خاطئاً بناءً على تشخيصه الخاطئ.. فإنّ ذلك الخطأ سيؤدي إلى إحدى نتيجتين : إما استمرار علّة المريض وتفاقمها، أو موته!.. وفي الحالتين، فإنّ المريض يكون قد لحقه (ظلم) من قبل الطبيب، على الرغم من أنّ الطبيب في الأصل لا ينوي أن يظلم مريضه، والظلم هنا لا يقع على المريض فحسب، بل يمكن أن يتأثر به أولاده الذين يعولهم، وزوجته، وربما أصحابه وأقاربه وهكذا ..!.. وبكلمةٍ أخرى نقول : لقد (أخطأ) الطبيب.. فنتج عن خطئه (ظلماً)، وهذا يقودنا إلى القاعدة التالية : (الخطأ يؤدي عند التنفيذ إلى الظلم) احفظوا هذه القاعدة، وانتقلوا معي إلى الفكرة التالية : كل مناهج الحياة توضع لتحقيق (سعادة) الإنسان (على افتراض أنه لا خلاف على النيّة)، لذلك ينبغي لها ألا تكون ظالمةً في أي بندٍ من بنودها أو أي جزئيةٍ من جزئياتها؛ لأنّ وقوع الظلم لن يؤدي إلى سعادة الناس بأي حالٍ من الأحوال.. فإذا كان منهج الحياة ودستورها من وَضْعِ الإنسان نفسه، أي من وَضْع البشر، فإنها ستحتوي حتماً على الكثير من الأخطاء؛ لأنّ الإنسان (خطّاء)، وبالتالي سيقع في موضع كل (خطأٍ) فيما يضعه الإنسان -عند التنفيذ- (ظلمٌ) على قدره ومقداره، فيكثر الظلم بمقدار كثرة الأخطاء في منهج الحياة الموضوع.. لذلك ينبغي لمن يضع منهج الحياة للناس وينظّم شؤونهم، أن يكون منـزّهاً من (الأخطاء)، فيكون بذلك منـزّهاً من (الظلم)، فتتحقق (سعادة) الإنسان !.. أي بمعنىً آخر : هو مَن يملك أن يضع للناس منهجاً صحيحاً خالياً من الأخطاء، وصحّة المنهج شرط أساس هنا، فمن هو الذي يتصف بهذه الصفة العظيمة ؟!.. - الجواب : الله _عز وجل_ وحده الذي لا يخطئ، فهو لا يظلم، فهو الوحيد القادر على تحقيق سعادة الإنسان.. والوحيد الذي يليق به أن ينظّم حياة الناس : بِوَضْعِ منهج الحياة الصحيح لهم، ثم بالإشراف على تنفيذه بشكلٍ صحيحٍ ولائق !.. وغني عن الذكر، أنّ واضع المنهج أيضاً، ينبغي أن يكون عادلاً، وحكيماً، وخبيراً، وقادراً على محاسبة الناس مهما عَلَت رتبهم، وقادراً على الانتصار للمظلوم أو صاحب الحق حتى بعد موته أو موت ظالِمِه.. و.. و.. فمن يتصف بهذه الصفات غير الله تبارك وتعالى ؟!.. النتيجة الأخيرة كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة يضعها البشر الذين يخطئون (حتى على افتراض حسن النية)، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان!.. أي : إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..) .. هذا (الأساس) هو : إنّ البشر هم الذين وضعوها !.. يتبع إن شاء الله