سر إعجاز القرآن

 


كان القرآن أكبر سبب لهداية العرب للحق, وهو الآن أكبر سبب لهداية العجم, وحين كانت بضع كلمات منه تبهر العربي الغليظ العنيد, فكاد قلب جبير بن مطعم أن ينصدع حين سمع قوله _جل وعلا_: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ" (الطور:35-36), وانخلعت قلوب صناديد الكفر فرقاً أن تفتن قراءة أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق أمام بلاغة القرآن فقادتهم أذانهم وقلوبهم لاستراق السمع على النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يقرأ القرآن, ثلاث يل متواليات, حتى خشوا الفضيحة من تكذيب ألسنتهم له في النهار, وتصديق قلوبهم له في الليل, وتنبأ عتبة بن ربيعة، فقال وهو يصف ما سمع من القرآن: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط, والله ما هو بالسحر, ولا بالشعر, ولا بالكهانة, وليكونن لقوله الذي سمعت نبأ), وما ملك الوليد بن المغيرة لسانه أمام ملأ قريش أن ينطق بمدح القرآن بكلمات ظلت من أصدق ما قالته العرب, وأبلغه, إذ قال: (والله إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أسفله لمورق, وإن أعلاه لمعذق, وإنه ليعلو ولا يعلى عليه).


حين كان القرآن يفعل بالعرب هذا وأشد نجده اليوم يعيد الكرة في زمن التقنيات, وثورة المعلومات, فيكون أهم سبب لهداية الكفار على اختلاف عقائدهم, وتنوع ثقافاتهم, ويخلف أبلغ الأثر في نفوس قرائه من الغرب والشرق, هذا وهم لم يقرؤوا إلا تراجمه التي لا تساميه روعة وجمالاً, بل ولا تحكي من ذلك شيئاً إلا معاني قليلة, تجهد الجهد كله أن تحيط الأعجمي بمعناه الإجمالي, فكيف لو قرؤوه بلغته التي نزل بها !


فلماذا ؟ ما سر هذه الجاذبية القوية للقرآن الكريم ؟ ما نواحي هذا الإعجاز ؟


أجد هذا السر في أمرين مجملين:
الأول: حلاوة ألفاظه, وجلالة معانيه, وسعتها, وشمولها, فليس في القرآن تفريط بشيء من المعاني الكبيرة في هذه الدنيا: الخالق والخلق, الكون والإنسان, الدنيا والآخرة, الخير والشر, الهدى والضلال, الصلاح والفساد, المسلمون والكفار, الجنة والنار, النفس والمال, الحقوق والواجبات, السلم والحرب, كلها معاني كبيرة يفتح لها القرآن صفحاته فيدون فيها أصول ما يحتاج البشر معرفته منها.


إن هذه المعاني بما تتضمنه من الأخبار والشرائع تبهر القارئ, تصدمه, تلهب مشاعره, تحرك شعوره, فتوقظ عقله, وتحيي قلبه, وتمد له من مساحات التفكر والتذكر ملا رواق له, إنها تجعل لحياته معنى أكبر مما كان يظن, إن روحه وقلبه وعقله كلها تخفق وهو يقرأ تلك المعاني آية بعد آية, فيحصل لها بها من العلم بأحواله وحياته وآخرته ما لم يكن منه على بال, وما لا يستطيع أن يجده في أي كتاب آخر, قديم أو حديث, ولا يخفف روعة هذه المعاني في النفوس إلا طول العهد بها, وكثر ملامستها, ولذا فإن قارئها لأول مرة يجد الروعة في أعلى درجاتها.


الثاني: الثقة المطلقة الموجودة في القرآن الكريم, فهو قد نزل بلغة واثقة كل الثقة, لا تخشى التكذيب, ولا تهاب شبه المكذبين الكاذبين, ليس فيها تردد ولا شك, ولا مساحة فيها لاحتمال صدق المخبر, بل هو الصدق الذي لا يشوبه كذب, وترخي عليه بستورها, وتبث فيه من روحها, فلا يستطيع قلبه أن يتجاهلها, أو يعاندها, أو يشكك فيها, بل تنطبع تلك الثقة في نفسه, فيثق بكل حرف فقي القرآن, وبكل خبر, وبكل أمر ونهي أنه حق من عند الله, ومن عاند فإنما يستطيع المعاندة بلسانه فقط كما قال العليم الحكيم: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً"(النمل: من الآية14).


حدثنا أحد العلماء الدعاة في الخارج أن امرأة تعرفت على الإسلام وقرأت عنه, وظلت محجوبة عن الدخول فيه حتى همت بقراءة القرآن, ففتحت المصحف على سورة البقرة ثم شرعت في القراءة من أولها فما تمالكت نفسها حين قرأت قوله _جل وعلا_: "الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" (البقرة:) حتى أطبقت المصحف وأعلنت الشهادة وقالت: ما أتممت قراءة هذه الآية وهي أول ما قرأت حتى تملكني شعور وثقت به أن قائل هذا الكلام لا ينبغي له أن يكون بشراً بل هو الله _سبحانه_.


ألا ما أقسى قلوبنا ! يقول عثمان ذو النورين _رضي الله عنه_: والله لو فقهت قلوبنا ما شبعنا من تلاوة القرآن, وكان _رضي الله عنه_ صادقاً فهو الذي كان يحيي ليله كله يقرأ القرآن, ومن أكبر شهادة من الله الذي في عثمان "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً"(الزمر: من الآية9).