أساتذة العقيدة
26 ذو القعدة 1426

ليست العقيدة الإسلامية مجرد مسائل يحفظها المرء ليصبح مسلما متكاملا صاحب منهج ناصع محققا لغرض خلق الله _سبحانه وتعالى_ للبشر.
وليست العقيدة حفظا لبعض المتون واستظهارا لها، ثم ترى كثيرا ممن يحفظ ويستظهر لا يطبق العقيدة في أفعاله وتصرفاته وولائه وبرائه.
وليست العقيدة إجازات علمية يجمعها بعض الناس لمجموعة قيمة من المتون والشروح كالطحاوية والواسطية والتدمرية والحموية وكتاب التوحيد وغيرها، ثم تجد بعض حامليها إما عميلا للطواغيت، أو عنيفا على المؤمنين والعلماء والدعاة والمجاهدين.
لقد رأينا وسمعنا الكثير عن نماذج مشوهة من حملة كتب ومتون العقيدة –ولا أقول حملة العقيدة- يقدمون أسوأ مثال لما قرؤوه وتعلموه، ويجعلون كثيراً من الناس يبغضون ويكرهون العقيدة السلفية الناصعة الجميلة بسبب تلك التصرفات الرعناء.

ووالله إن العقيدة بريئة من أولئك النفر المتشدقين بها والمنتسبين زورا للدعوة السلفية وكل عملهم وديدنهم وهجيرهم الكلام في خيرة الناس من الدعاة والعلماء والصالحين والمجاهدين، ووصف ذلك بأنه ضال وذاك فاسق والآخر منحرف والثالث مبتدع، وغيرها من الألقاب التي يكاد المرء يشك في أنهم درسوا أو تعلموا شيئا من تلك الكتب، وكأنهم كانوا نياما في تلك الدروس.

أليس لب العقيدة يقوم على الولاء والبراء، أن يوالي الإنسان المسلمين –كل المسلمين- ويتبرأ من الكافرين؛ كل الكافرين.
لكل مسلم من الولاء بحسب إيمانه وصلاحه وقربه من الله _تعالى_، فالعلماء والمجاهدون والدعاة والصالحون في الدرجة الأولى، وكل مسلم بحسب صلاحه وبعده عن المحرمات والضلالات، فكيف لم يجد أولئك الناس إلا هذه الفئات المتقدمة المحترمة ليصوبوا تجاههم سهام النقد والبراءة منهم، ولم يوجهوا مثل تلك السهام ولا معشارها تجاه الكفار الذين يستحقون فعلا البراءة.

أين العقيدة إذا؟ العقيدة كتطبيق ومبدأ ينطق في الواقع، أين الفائدة المرجوة من تلك الكتب العظيمة التي ورثها لنا سلفنا الصالح رضي الله عنهم؟ أين نجد الولاء والبراء حقا؟ ونجد مظاهر الإيمان الحقيقي: الإيمان الذي قرره أهل السنة والجماعة؛ وأنه قول واعتقاد وعمل، والعمل هو دليله الذي لا يصح بدونه؟ أين هم أولئك القوم الذين يسطرون العقيدة بدمائهم في ساحات الولاء والبراء، وفي مواطن نصرة الدين و الأمة؟
إن أساتذة العقيدة الحقيقيين هم أولئك الذين يدرسونها واقعا ملموسا بمواقف عقدية حقيقية، الذين يمتثلون الإسلام في تعاملهم ومواقفهم ومبادئهم، ويرتضون الأذى والمعاناة في سبيل تلك العقيدة السليمة التي يرضاها الله لخلقه المؤمنين.
أحمد بن حنبل الإمام العظيم ضرب مثالا من أروع أمثلة الثبات على العقيدة، بصبره وثباته على المبدأ وقت الفتنة.

وشيخ الإسلام ابن تيمية قدم دروسا عظيمة في العقيدة، ما كان لكتبه –والعلم عند الله- أن تظهر وتنتشر كل ذلك الانتشار؛ إلا بثباته العظيم ذاك، درس مواجهة التتار في شقحب وسواها، درس قتال النصيرية، درس الردود على النصارى والمبتدعين والمتجبرين حينذاك.

وصلاح الدين الأيوبي قدم بعضا من أقوى دروس العقيدة في قتاله للصليبيين وتثنيته بالفاطميين الروافض، فأزال دولهم وهز أركان عروشهم، فأصبحوا أثرا بعد عين، وماضيا بعد حاضر، فكانت دروسه –حينذاك- خيرا من آلاف الدروس النظرية، ومئات الحلقات العلمية، كيف لا وقد أزال الله بها البغاة والظالمين، ودحر بها المبتدعين، وعاد الإسلام للشام، والسنة لمصر وبقية بلاد المسلمين.

وأساتذة العقيدة في تاريخ أمتنا كثيرون، لكن أعظمهم -بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- هو أبوبكر الصديق _رضي الله عنه_.
لم تكن لأبي بكر دروس نظرية، أو حلقات مسجدية، لكنه كان يقدم أمثلة واقعية عظيمة أفاد بها أعظم أمم الأرض؛ أمة المسلمين.
قدم الصديق درسه الأول في العقيدة يوم وفاة النبي _صلى الله عليه وسلم_، حين كان بعض الصحابة لا يكادون يصدقون ما حدث، وحين قام عمر رضي الله عنه –تحت هول الفاجعة- يحذر من دعوى موت النبي _صلى الله عليه وسلم_، حينذاك قام أبو بكر الصديق _رضي الله عنه_ والناس في كرب وهول، والرؤوس مئرئبة، والعيون متطلعة، فألقى عليهم كلمات قليلة في عددها عظيمة في أثرها، قال: (يا أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فأن الله حي لا يموت) وقرأ قوله _تعالى_: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ" (آل عمران: من الآية144). فاستوعب الناس الدرس، وتيقنوا الأمر، وخرجوا يقرأون الآية ويعجبون، وكأنها نزلت في هذا اليوم وليس من قبل.

واستمرت دروس الصديق العقدية العظيمة، فلما ظهرت بوادر التمرد والارتداد العربي عن الدين والعقيدة، ورغب بعض الصحابة أن يؤخر الصديق إنفاذ جيش أسامة الذي عقد النبي _صلى الله عليه وسلم_ لواءه قبل أن يموت؛ أبى أبو بكر، وقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله _صلى الله عليه وسلم_)، وحين قال له البعض: إن المدينة ستخلو من المقاتلين وتصبح مطمعا للأعراب، قال: (لا أوقف الجيش ولو رأيت الكلاب تجري بخلاخل أمهات المؤمنين)، فكان هذا الجيش بعد ذاك بركة وخيرا عظيما على المسلمين، وتسامعت به العرب والعجم، وقالوا: إن أهل المدينة في منعة وعز، وإلا لم ينفذوا هذا الجيش الكبير.

ودق جرس حصة العقيدة الثالثة سريعا، فقدم أستاذ العقيدة العظيم أبو بكر الصديق درسا مهيبا، حين حاول بعض الصحابة أن يقنعوه أن يكتفي بقتال المرتدين المنكرين للنبوة، أو التاركين لكل الشعائر، ولا يقاتل أولئك المؤمنين بالشهادة والمقيمين للصلاة والحج وصوم رمضان، والمانعين للزكاة فحسب، فأصر إلا قتالهم وتكفيرهم، وقال: (والله لا أترك من فرق بين الصلاة والزكاة)، فناقشوه وحاوروه، فأقنعهم وعلمهم، فكان أنجب تلاميذ ذلك الفصل –عمر بن الخطاب- يقول بعد ذاك: (والله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر لذلك حتى علمت أنه الحق)، فقام الصديق بالأمر خير قيام، وانتصر الدولة المركزية في المدينة النبوية، ونصر الله الدين وحفظه بهذا الأستاذ العظيم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

وكان عمر من بعده مدرسا عظيما كذلك، وكل الصحابة درسوا العقيدة بمواقفهم وتضحياتهم، كل حسب مكانته وعمله، فكانوا دروسا في حركاتهم وألفاظهم وكلماتهم وصبرهم وجهادهم وشجاعتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتأسيهم بالحبيب المصطفى _صلى الله عليه وسلم_.
وفي أزمنتنا المتأخرة هذه قدمت الأمة المصطفاة –خير أمة أخرجها الله للناس- مدرسين كبارا للعقيدة النظرية التطبيقية، التي أنزل الله الكتب وأرسل الرسل لتحقيق العبادة التي لا تكون إلا بها، ولا تصلح إلا بتطبيقها.

فمن أولئك المدرسين للعقيدة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب النجدي الذي جاء في زمن انتشار الضلالات والبدع، فسعى إلى مواجهتها وتحديها بالوسائل المتعددة، ولم يكتف بما اكتفى به الجبناء والخوافون من الوقوف عند حد الإنكار باللسان عند إمكانية غيره، فقاتل أولئك المشركين ونابذهم، ولم يلتفت للمخذلين والمحذرين الذين عاشوا أعمارا مديدة في ذل الخوف، وداخلتهم بعض عقائد المرجئة، وقد خسر ابن عبدالوهاب في منهجه العظيم ذاك أقرب المقربين إليه –حينا من الدهر- ومنهم أبوه وأخوه الأكبر الذين كانوا من ذلك المجتمع الذي اعتاد على ألا يتجاوز إنكاره الكلام الخافت والنصيحة المؤدبة.

ولكن ابن عبدالوهاب كسب –في نفس الوقت- عملا صالحا كثيرا، وأجرا من الله عظيما –نحسبه كذلك والله حسيب كل مسلم- وغير وجه وتاريخ مجتمع كامل، بل مجتمعات متعددة، وقدم درسا كبيرا في العقيدة ما نزال نرشف من معانيه، ونجتني من زهوره الفواحة.

لله درك يا ابن عبد الوهاب يوم كفرت أولئك المشركين في زمن الإرجاء، حين اعتاد بعض الناس المجاملة، وظنوا أن كل من تشهد بالشهادتين مسلم؛ وإن سجد للقبر، أو سب الرب تعالى، أو سأل الحاجات -التي لا يقدر عليها إلا الخالق- من المخلوقين، ما فعله ابن عبدالوهاب هو العقيدة، وهناك تظهر الأستاذية.

وفي أيامنا هذه –أيام هيمنة اليهود والنصارى، وأيام سيطرة المنافقين- فإن للعقيدة –أيضا- رجالها وأبطالها، يدرسون بمواقفهم وثباتهم العالم أجمع: أن هذه الأمة أمة منصورة مرحومة، وأن الخير فيها من أولها إلى آخرها.

مدرسو العقيدة –هؤلاء- إن نصبت لهم المشانق، أو أغلقت عليهم أبواب السجون، أو سيموا شيئا من العذاب، فلا تراهم إلا صابرين ثابتين، يعلمون بمواقفهم، ويدرسون بتضحياتهم، فيتخرج على نهجهم ثلة بعد ثلة من شباب الأمة ونسائها، وإن رغمت أنوف المنافقين، وتكاثر مكر الكافرين بسعيهم لتجفيف المنابع، والتضييق على الدعوات المباركات، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وساحات النزال والمقاومة المنتشرة هنا وهناك إنما هي مدارس للعقيدة، تمتلئ بالمدرسين الذين يسيرون بسيرة نبي الإسلام –صلى الله عليه وسلم- وبسيرة أبي بكر وعمر وبقية الصحابة، وبسيرة أحمد وبقية الأئمة، وصلاح الدين الأيوبي وبقية المجاهدين، وابن تيمية وبقية العلماء، وابن عبدالوهاب وبقية المصلحين.

إنهم يدرسون الأمة عقيدة الولاء والبراء، والتضحية من أجل الدين، والموت لإعلاء كلمة الله، ورفض تحريف الدين وتحكيم القوانين الوضعية، وهم إذ يدرسون تلك العقيدة السلفية الناصعة لا يدرسونها على منهج المرجئة، وأصحاب المصالح المادية والدنيوية، وعملاء السلاطين، وعلماء التسول، إنما يدرسونها على منهج أبي بكر في إصراره، وابن حنبل في ثباته، وابن عبدالوهاب في وضوح الفكرة لديه، وقبل كل ذلك على منهج محمد بن عبدالله في هديه وسيرته؛ _صلى الله عليه وسلم_.