أنت هنا

حركة "علماء من أجل التغيير"
17 ذو القعدة 1426

ليست حركة سياسية آنية وإنما حالة فرضت نفسها عبر التاريخ الإسلامي الأثيل, لم يكن العلماء المسلمون والفقهاء خارج المعادلة السياسية في الحكم بل كانوا دوماً في قلبها.
منهم كانت تبسط الشرعية على الولاة والسلاطين أو تنحسر عنهم, وإليهم كان ينتهي الناس في احتجاجاتهم على مظالم الولاة والقضاة.

حركة العلماء من أجل التغيير(*) ليست حركة تخوض نضالاً سياسياً هذه الأيام بل خطاً ظل إلى قرون تمتد خطوط آمال المصلحين في العالم الإسلامي على امتداداتها فتلتقيه, ورمانة ميزان تضبط الشعوب وتثورها في آن معاً, تضبطها أن تأتي بالفوضى التي تقسم البلاد وتشيع بين مواطنيها الفتن والصراعات, وتثورها على واقع يرضى لها بالأمر الواقع الذليل..

ولقد كانت صفحات التاريخ ذاخرة على الدوام بوقفات تجسد نهضة العلماء كلما استشعروا في أمتهم اضطراباً وفي سياسية بلدانهم اهتزازاً وفي قيادتها اعوجاجاً ظاهراً, وأين منا وقفة الشيوخ المناضلين محمد عليش والخلفاوي وحسن العدوي وهم من كبار علماء الأزهر لما أفتوا بمروق الخديوي توفيق عن الدين في 22/7/1882 في يوم مبارك من أيام شهر رمضان عندما بلغ اليقين من قلوبهم شأواً بأن هذا الحاكم قد مالأ العدو وأباح ديار مصر للانجليز مفضلاً انسحاب أحمد عرابي وزير الجهادية في ذلك الحين من كفر الدوار جنوب من الإسكندرية بعدما غزاها الإنجليز عوض مقاومتهم.. كانوا نحواً من خمسمائة عالم وشريف يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ولفيف من الوجهاء.. التأمت أمانيهم وتوحدت كلمتهم في مبنى وزارة الداخلية التي كانت عنوان استقلال البلاد فاحتوتهم ليعبروا بالبلاد منها نكبة ألمت بها بكل شمم وكل إباء..

علماء التغيير هم الذين يتسامون في إباء فوق كل زخارف الحياة ويتصدون بكل شجاعة لمن من الحكام يريد للإسلام أن يكون مطية نزواته وطموحاته.. شأنهم كشأن العالم الجليل محمد أبو زهرة (المتوفى في العام 1974) حين دعي إلى مؤتمر إسلامي استهله رئيس الدولة المضيفة بالحديث عن ما دعاه بـ"اشتراكية الإسلام", داعياً الحضور إلى موافقته فيما يقول, فلاذ الشيخ الكبير بمنبره قائلاً: "إننا نحن علماء الإسلام الذين نعرف حكم الله في قضايا الدولة ومشكلات الناس، وقد جئنا إلى هنا لنصدع بما نعرف، وإن على رؤساء الدول أن يعرفوا قدرهم ويتركوا الحديث في العلم إلى أهله"، ثم اتجه إلى رئيس الدولة قائلا: "إنك تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم لا لتعلن رأياً لا يجدونه صوابا مهما هتف به رئيس؛ فلتتق الله في شرع الله" حتى أرغم الرئيس إلى مغادرة القاعة مغضباً..

يعارض الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي تسمية الملك فؤاد خليفة للمسلمين فـ" مصر لا تصلح دار خلافة لأنها تحت الاحتلال الإنجليزي", ويفتي العلماء بمروق الخديوي توفيق من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ويستهجن شيخ الأزهر عبد المجيد سليم كثرة نفقات الملك فاروق ويقول: "تقتير هنا وإسراف هناك" فيقال ثم يعاد فيستقيل, ويفتي سليم بحرمة بيع الأراضي لليهود ويزيد أبو زهرة بفرضية عين الجهاد ضد اليهود على الحكومات قبل الأفراد والجماعات, ويعزل إبراهيم حمروش من مشيخة الأزهر بعد إصداره بياناً يدين قتل الإنجليز لجنود الشرطة المصرية في العام 1950 بعد 6 أشهر فقط من توليه المشيخة, ويستقيل شيخ الأزهر محمد خضر حسين من منصبه محتجاً على خطوات دمج القضاء الشرعي في القضاء الوطني في العام 1958, ويغيب المحلاوي في غياهب السجون لمعارضته موقف السادات من "إسرائيل" في العام 1981.. علماء النهضة هم أولئك المتلمسون خطى هؤلاء المتفردون ممن ذكرنا, السائرون خلفهم في طريق وعر غير أنه قويم.. ليس للنهوض من سبيل إلا هو.

علماء من أجل التغيير هم علماء يكافحون الاستبداد وتبديل أحكام الدين أيا كان مصدرهما, هم من نسل من قاموا في العام 1795 ثائرين من الأزهر يقودون الشعب ضد استبداد المماليك وبطشهم وعدوانهم على الناس, ثم قام أحد رموزهم بعد ذلك بثلاث سنوات فقط وهو المناضل الفذ محمد كريم ليقف في وجه الفرنسيين بالإسكندرية حتى يتم إعدامه في ذات العام.. هم أبناء أولئك الذين هبوا في وجه الفرنسيين الغاصبين بعد ذلك بعام من الأزهر قلب مصر الثائر يتقدمهم الشيخ سلمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ إسماعيل البراوي والشيخ يوسف المصيلحي الذين استشهدوا عن بكرة أبيهم فداء لدين قد أخذ عليهم الميثاق "لتبيننه للناس ولا تكتمونه" في ثورتي القاهرة الأولى والثانية في عام 1798 والذي يليه..

علماء النهضة والإصلاح هم عنوان أي مرحلة تريد فيها الأمة أن تنهض مهتدية بهدي دين يرفض الذل والاستكانة والمهانة واستجداء الحقوق من الظالمين, مرحلة تؤخذ فيها الحريات غلاباً وتعود فيها الأمة لقيادتها الحقيقية التي لا تقيل ولا تستقيل حتى تعود الحقوق إلى أيدي أصحابها, وحتى يسود العدل وتعلو قيمة الأخلاق.

كم نرى الأمة اليوم بحاجة إلى مثل هؤلاء العلماء الربانيين الذين يجهرون بكلمة الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم, يجهرون بكل شجاعة بموقفهم من الحكام المستبدين, بموقفهم من النظم الشمولية والفاشستية, من السجون العامرة والمساجد المهجورة, من النظم الاقتصادية الاحتكارية والظالمة, من فساد الطغم الحاكمة وأنهار الأموال العربية والمسلمة الدافقة من بلداننا إلى بلاد الاستكبار العالمي والاحتكار الصناعي والتقني, من فساد الأفكار الناشزة عن ثوابت العقيدة وقيم الأمة, من ارتباط القنوات الفضائية المتخصصة فيما ينسف أخلاق الشباب برؤوس أموال عربية مجهولة المصادر ولصيقة الصلة بالأنظمة العربية, من روابط الدول العربية بدول تبدي العداوة الظاهرة لعقيدة وقيم هذه الأمة, من صمت على الاحتلال وتدجين الشعوب للرضا به وتقبله, من إفساد للتعليم وتقويض للصحة العامة وهدم للثوابت, من فساد مالي وصفقات مشبوه وبيع لمقدرات الشعوب وقلاعها الصناعية بثمن بخس ورشاوى تضرب في بنى المجتمعات العربية بعطن..

علماء التغيير, هم علماء الاستقلال المادي والعلمي والثقافي, فلا تضخ بسبيلهم الأموال لينسوا قضاياهم الحقيقية ويهرعوا إلى قضايا تؤخر الأمة ولا تقدمها؛ فيقعون في الفخاخ المنصوبة, أو تشح الأموال لديهم عمداً ليزداد عوزهم إلى الدولة وفتاتها؛ فيلهثون خلف الحطام.. علماء النهضة ما يبالون بالأموال, ولا تغرهم الأضواء, ولا تستدرجهم القنوات, ولا ينتظرون "حركة العلماء" مثلما تنتظر الشرطة والقضاء حركتيهما اللتين تمنحان المناصب وتحجبهما وفق قاعدة الرضا والسخط.

هؤلاء هم العلماء الذين إليهم يتوق الشباب, أن يلاقوا في شخوصهم رجالاً رفعهم العلم فما تدنوا, وأعزهم فما زلوا, وأخذ ربهم عليهم ميثاق الكتاب "لتبيننه للناس ولا تكتمونه" فما خانوا, وثبتوا في مصاف المناضلين الصابرين عند الأذى "فما وهنوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا"..

علماء التغيير هم عناصر فاعلة بل رواد الفعل التأثيري في محيطاتهم, وحين يفتقدون في مدلهمات الأمور ومصائر الشعوب نوازل المجتمعات؛ فإن قليلاً من الناس من يلتفت إلى فقهم وتحديثهم وشروحهم, وتتقلص حينئذ حلقات دروسهم ولا تزيد, لأن العالم موقف, والعالم منارة, والعالم يغيض نضالاً ويتلألأ نوراً بحياة منذورة لله وروح لا تهاب إلا الله وجبهة لا تسجد إلا لله وجسد لا ينحني إلا للواحد الديان وعاتق لا يحمل إلا أمانة البلاغ.. هذا البلاغ المأخوذون ببيانه أياً كانت التبعات ومهما كان ثمنه من دم أو تهميش أو إبعاد أو حرمان..

وإذ الناس حيارى والبوصلة منحرفة تبقى حاجة الناس اليوم ملحة إلى قيادة علمية منفتحة وواعية وراشدة, تمضي بالسفينة إلى بر الأمان وتقود الجماهير إلى طريق الدين والاستقلال والحرية.

ـــــــــــــ
(*) علماء من أجل التغيير هو مجرد مسمى يتوافق مع حالة سياسية راهنة من حيث المضمون, ولا يتفق مع تفرد العلماء بمسمى لا يتشابه مع مسميات فرنسية لحركات ليست بريئة التوجه والانتماء, وإنما قصدت المضمون.