ربانية الحج (2/2)
15 ذو الحجه 1426
د. خالد رُوشه

إنهم هناك.. في أيام المشاعر المعظمة.. تجتمع هممهم, وتتجرد للطاعة والابتهال قلوبهم, وترتفع إليه سبحانه أيديهم وتمتد إليه أعناقهم وتشخص نحو السماء أبصارهم, مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والغفران.. فلا ثم منفعة شخصية دنيوية, ولا رغبة مال أو متاع, ولكن رجاء ألا يخيب الله منهم الظنون ويقبل منهم السعي, ويفيض عليهم من رحماته ورضوانه, فهل ترى يكون هناك خلق بغيض لمن صدق؟ أو سوء سلوك لمن أخلص؟ كيف وهم يحلون بمواضع لم يزل الصالحون يعظمونها ويحلون فيها ويعمرونها بذكر الله, والملائكة يتنزلون من حولهم بكل موضع..

فاللباس الأبيض المشابه للكفن, الذي يستوي فيه الجميع غنيهم وفقيرهم عزيزهم وذليلهم هو علامة التواضع وشارة التسوية ولذلك يقول _صلى الله عليه وسلم_: "من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله _تبارك وتعالى_ دعاه الله _تبارك وتعالى_ يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حُلل الإيمان أيها شاء" رواه أحمد والترمذي... فلا مكان إذن للخيلاء ولا للزينة ولا للفخر ولا للزخرف تطبيقا لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد" رواه ابن ماجه.

وهم فوق ذلك في مدرسة للتربية على العفو والصفح، والنسيان والغفران, والتغاضي عن الزلات.. قال _تعالى_: "فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ", فهم يذكرون قول الله _تعالى_: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" وذكر الله من صفات المؤمنين بقوله: "الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". وقوله: "إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ"، "وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ"

وقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - عندما سئلت عن أخلاق النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقالت: "لم يكن فاحشاً ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح " رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وقال _صلى الله عليه وسلم_: "من كتم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء" رواه الترمذي.

إحياء الثورة.. وتجديد الفكرة..
إنه عرضة سنوية للملة الحنيفية, تعمد بقاءه وترفع أصالته, فمهما حورب هذا الدين ومهما قوتلت هذه الثورة.. فالإسلام باق, والقرآن باق, ولباس الحج الأبيض يحيط بموروثات تلك الشريعة الربانية, فبوجود تلك المؤسسة العظيمة تبقى هذه الأمة عبر الأجيال رافعة نبراسها, خفاقة أعلامها, محتفظة بطبيعتها, مهما ادعى المدعون تغير الزمان وتبدل الأحوال, فهو ذات المنظر الذي حج به هادي البشرية منذ مئات السنين, وحوله حواريوه وربانيوه, فلتبق هذه الأمة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية العطوف الرءوم, الثائرة القوية, تتوارثها الأجيال فلكأنها القلب الحي الفياض الذي يضخ الدم كل عام في شرايين ذلك المجتمع مترامي الأطراف...

ولاء وبراء..
ومهما تفرقت لبنات الأمة أو تشرزمت جماعاتها، فالحج يجمع الشمل، وينمي الولاء ويعيد الحب ويدعو إلى النصرة، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون مناسك واحدة.
كما أن فـي الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق، وبذل الـمعروف..
كما أن فيه ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم؛ يقول ابن القيم: "استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك".

لقد لبى النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد، خلافاً للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخـالـفـاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_، فدفع قبل أن تطلع الشمس.

وأبطل النبي _صلى الله عليه وسلم- دعوى الجاهلية كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" أخرجه مسلم, يقول ابن تيمية: "وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل: دعواهم يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم" (اقتضاء الصراط المستقيم).

يا زائرين.. متى نلحق بركب الصالحين؟
لقد تذكرت حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأنا أكتب ذلك المقال, وذكرت كيف ذرفت عينا أبي بكر رضي الله عنه لما علم أنها الحجة الأخيرة.. وأنه الوقت الموعود.. وأنها أيام الفراق..
لكأني أرى النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يخطب في أمته ويعظ العالمين, وهيبته قد غطت المقام, ودموع أصحابه تذرف وقلوبهم توجل, والميثاق تتنزل كلماته تترا..ليؤذن أنه وحي خالد ودين راسخ.

فيا زائرا مع الزائرين: هل تراك ذكرت أن ربك قد اصطفاك هذه الأيام من دون خلقه ليزداد قربك منه وتضع قدمك موضع سيد الأبرار؟ ويطلع عليك في عرفه, ويباهي بك ملائكته؟ هل تراك وأنت تذرف الدمع الساخن, حمدت الله على النعمة؟ وجددت العهد مع الرحيم؟ ومحوت بالتوبة النصوح زلات السنين؟
ويا أيها الذي لم يقدر له أن يلحق بالزائرين.. متى تخلص في الدعاء ليلحقك بالصالحين؟!!