رؤية شرعية في الأخوة الإنسانية (1/2)
29 ذو الحجه 1426

يرى المفكرون أن من أصيب بالانهيار الداخلي، والهزيمة النفسية تجاه من يعاديه فإنه سيحاول جاهداً بقدر المستطاع أن يثبت بأنه محب له ومسالم، فلا بأس أن يهدي له كلمات المحبة والود والإخاء، ولو كان ذلك على حساب عقيدته التي ينتمي إليها ويستظل بظلها.

واليوم ونحن نشاهد أعداء الإسلام وقد كشروا عن أنيابهم، وأبدوا ما كان مخبئاً في صدورهم ومكنون قلوبهم، من عداوتهم للمسلمين، وإرادة الشر والمكر بهم، فلا عجب أن نجد كثيراً من الكبراء أو المنتسبين للعلم والفكر حين يتنازلوا عن أصول الدين، وثوابته العظام، خشية أن يصمهم عدوهم بأنهم (متشددين) أو(أصوليين).

ولا يزال هؤلاء وأمثالهم إلا انبطاحاً للكفار، ويتزايد سقوطهم الفكري شيئاً فشيئاً، لإرضاء شرذمة الكفر، وعصابة الإجرام – وقد لا يشعرون – ويكون حالهم كما قال الشاعر:


ألقى الصحيفة كي يخفف رحله والزاد حتى نعله ألقاها

ومع تتابع الحملات الصليبية على الإسلام والمسلمين بعد أعقاب الحدث التاريخي السبتمبري، وتأكيدهم على أهمية حرب ما يسمى (بالإرهاب)، فإنهم أكدوا أن هذه الحملة لن تقتصر على القوة العسكرية فحسب، بل هي حملة واسعة النطاق، عريضة الجبهة، ومن أهدافها محاربة عقيدة الإسلام، وقيمه العظام، ومبادئه السامية.

وإن من المبادئ التي يسعى (التحالف الصليبي) لبثها في الأوساط الإسلامية، وخاصة بين النخب العلمية والمثقفة، والذين لهم تأثيرهم على أتباعهم ومريديهم، مبدأ(الإخاء الإنساني) أو (الإنسانية) ومن ثم إلى (الإخاء الديني) و(التلاحم الفكري) محاولين أن يصنعوا لها ألواناً براقة(1)، تخلب الألباب، وتثير المشاعر، فيتلقفها المسلمون، وتسري في عروقهم تلك المبادئ حتى النخاع، وعندئذٍ يتحقق للصليبين ما أرادوا نشره، وتنجح لعبتهم الماكرة لكسب المسلمين بجانب صفهم، وصدق الله حين وصفهم بقوله: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" (إبراهيم: من الآية46).

والغريب أن هذه المبادئ قد نالت حظاً واسعاً بالانتشار في عقول كثير من المسلمين، وبعض المنتسبين للفكر والعلم! وعقدت الكثير من اللقاءات والندوات الفكرية والحوارية باسمها، لأجل التنظير لها، والمنافحة عنها، حتى ظنت طائفة من المسلمين بأنها مصطلحات (خير وبر) وما دروا أن السم دس في العسل، وصدق من قال:

كم حديث يظنه المرء نفعاً وبه لو درى يكون البلاء

فلنكشف الأوراق ولنظهر الحقائق:
المُرَاجِعُ لتلك المبادئ وحين يردها إلى أصلها وجذورها التاريخية، سيجد أن من أوائل من بدأ بالتركيز على إبرازها هي: (الحركة الماسونية) وأذنابها من المستعمرين(2) الحاقدين، أو ممن تلبس بلباس الإسلام من المنهزمين وكان متأثراً ببعض نظم تلك الحركة.. ولست مبالغاً فإن هذه المنظمة العالمية قد بنت ركائز فكرها، ودعائم منهجها على ثلاث مبادئ:(الحرية - الإخاء الإنساني – المساواة) وهم يسعون لنشرها بكل ما أوتوا من قوة مادية أو معنوية، حتى يتلقفها الجهلة، ويكونوا بوقاَ لنشرها والتعريف بها.

وقد ذكر الأستاذ: عبد الله التل في كتابه (جذور البلاء)(3) مترجماً لكلام اليهود في بروتوكولاتهم ما نصه:(كنا أول من اخترع كلمات الحرية والإخاء والمساواة التي أخذ العلماء يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف بل التناقص الذي يشيع في مدلولها، إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه، قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا) ا.هـ
وبِغَض النظر عن صحة البروتوكولات ونسبتها للماسونية اليهودية أو عدمها، فإنهم قطعوا على أنفسهم عهداً بنشرها ليغزوا بها عقول المسلمين.

ولهذا فقد أصدر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي فتوى قيمة، بعد أن اطلعوا على أفكار تلك الحركة الخبيثة، وما يهدفون إليه من نشر الثقافات الكافرة، والكتابات الماكرة، وكان في تلك الفتوى ما نصه: (أنها – أي الحركة الماسونية – تبني صلة أعضائها بعضهم ببعض في جميع بقاع الأرض على أساس ظاهري للتمويه على المغفلين وهو الإخاء الإنساني المزعوم بين جميع الداخلين في تنظيمها دون تمييز بين مختلف العقائد والنحل والمذاهب)(4) ا.هـ

الشريعة الإسلامية ومصطلح (الإخاء):
قد بينت الشريعة الإسلامية حقيقة وكيفية(الإخاء) كما في الوحيين:(الكتاب والسنة) وهي:
1ـ أُخوة الدين:
فمن كان كافراً فهو أخ للكافر، ومن كان مسلماً فهو أخ للمسلم، ومنه قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" (الحجرات: من الآية10)، وإنما أداة حصر فقد حصر الله الأخوة بين المؤمنين فقط، ومنه قوله _تعالى_: "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ" (التوبة: من الآية11)، أي في دين الإسلام(5)، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم – :"المسلم أخو المسلم"، ولذا فإنه لما خاف الخليل إبراهيم – عليه السلام- من بطش الطواغيت بزوجته سارة قال عنها: (إنه أختي) أي أخته في الدين الحنيف الذي يجمع بينهما وهو الإسلام.

ولذا فقد بين – عز وجل – أن المنافقين ليسوا بمسلمين وأنهم إخوان للكافرين فنزع أخوتهم من المسلمين وقرنهم بالأخوة التي تربط بينهم وبين أسيادهم الكافرين، فقال: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الحشر:11)، قال ابن الجوزي عند قوله _تعالى_: "يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ": (أي في الدين لأنهم كفار مثلهم وهم اليهود)(6).

2. أخوة القرابة والنسب:
ومنه قوله _تعالى_: "كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ" (الشعراء:105، 106)، وقد نص جمع من المفسرين بأن المقصود بهذه الأخوة في هذا الموضع بأنها أخوة النسب، ومنهم الشوكاني، حيث يقول: (أي أخوهم من أبيهم لا أخوهم في الدين)(7)، ومن هذا قوله _تعالى_ لموسى: "اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي" (طـه: من الآية42)، والمقصود به هارون -عليهما السلام- والذي كان أخاً لموسى من أب وأم.

زوبعة عصرية، وإثارة قضية:
أثار بعض المفكرين العصريين والمناصرين لمبدأ (الإخاء الإنساني) بأن هذا المصطلح قد ذكره بعض المفسرين في كتبهم، وأن له دليل من القرآن، مثل قوله _تعالى_: "وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً" (الأعراف: من الآية65)، قائلين إن القرآن أثبت هذا الإخاء فهو – عليه الصلاة والسلام – لم يكن أخاً لقومه في الدين لكنَّه أخاهم في البشرية والإنسانية، ولهذا لا مانع بأن نطلق على النصارى واليهود بأنهم إخواننا في الإنسانية.

وجواب ذلك: بأنه لاشك أننا جميعاً مسلمين وكفار خلقنا الله – عز وجل – من أبينا آدم وأمِّنا حواء- عليهما الصلاة والسلام – فنحن جميعاً نشترك في البنوة لهما وهو – سبحانه – ينادينا جميعاً قائلاً: "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً" (الأعراف: من الآية26)، وعليه – راجياً أن يُفْهَمَ ما أعنيه – فلو أطلق البعض هذا المصطلح لأجل تلك البنوة من آدم وحواء – وليس له إلا هذا المراد فقط – لهان الخطب، وأصبح الأمر قابلاً لوجهات النظر، من حيث أصل هذا المصطلح، ولكن.....

هل يريد هؤلاء العصرانيون أن يثبتوا هذا المبدأ بهذا التفصيل، أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن المراد غير ما يظهر، وأن الجوهر بخلاف المظهر؟
- قيل في المثل العربي: (الحقيقة بنت البحث) ولا شكَّ أنَّ الغوص في معاني الأمور، ومحاولة إدراك حقائقها، من الأهمية بمكان، والحق الذي لا أشك فيه، أن هذا المبدأ لا يقصد جل من يقوله – نسأل الله لنا ولهم الهداية – إلا خلاف الحق، وتفريغ الإسلام من محتواه الاعتقادي، وإبعاد المسلمين عن منهج الله القويم، وصراطه المستقيم(8)، إلى أن ينتقلوا بمن يتأثر بأطروحاتهم تلك إلى إثبات مبدأ (الإخاء الديني) وقد كان... فتختلط الأمور، ويصبح الأمر في حيص بيص، ويطمع الطامعون في إسقاط المسلمين بمزالق عقدية خطيرة تحت مظلة (التقارب الديني) أو(التعايش مع الآخر) أو(نبذ الشك والارتياب بالآخرين) ويصبح من تأثر من المسلمين بتلك الأُطر، كما قيل:

فتراخى الأمر حتى أصبحت هملاً يطمع فيها من يراها

و لهذا فهل يليق بنا السكوت والتعامي عن مراد هؤلاء المنحرفين بحجة أن هذا المبدأ في جملته صحيح؟!

أهداف المدرسة العصرانية ومقاصدها في التلويح بهذا المبدأ:
1) تمييع عقيدة البراء من الكفار وبغضهم وعدواتهم، واستبدال ذلك بالدعوة إلى محبَّتهم ومودتهم ومصاحبتهم! إلى غير ذلك من العبارات التي يحاولوا أن يسترضوا بها الكفار، لتربط بينهم وبين المسلمين بوشيحة الإخاء، وحين يقتنع المسلم بهذه الدعوات المنهزمة فإنه سيقل إحساسه بخطر الكفار، وأهمية البراءة منهم، بل سيحصل بينه وبينهم نوع من الانسجام الفكري، والتنازل العقدي، بغية الاجتماع على قواسم مشتركة.

وممَّا يجدر التنبُّه له، ووجدته واضحاً من خلال البحث والاستقراء لكتابات أصحاب المدرسة العصرانية، حيث رأيتهم متوافقون في مقاصدهم تجاه(الإخاء الإنساني) وأنَّهم يريدون من وراءه القول بمودة الكفار ومحبتهم والتعايش معهم، ولهم كتابات منتشرة في ذلك لو قلَّبها المتابع لوجدها صريحة بنشر هذا المقصد، فتجد أنَّ بعضهم يقول: (إنَّ الأخوة الإنسانية العامة التي أوجب الإسلام بها التعارف عندما يختلف الناس أجناساً وقبائل يجب وصلها بالمودة، والعمل على الإصلاح ومنع الفساد ولو اختلف الناس ديناً وأرضاً وجنساً) بل إنَّ بعضهم يقول:(... ومع ذلك التاريخ السابق فإننا نحب أن أيدينا وأن نفتح آذاننا وقلوبنا إلى كل دعوة تؤاخي بين الأديان وتقرب بينها، وتنزع من قلوب أتباعها أسباب الشقاق).

والحقيقة أنَّ من تعلَّم العقيدة الربَّانيَّة حتَّى تجذَّرت في أعماق نفسه البشرية، يعلم أنَّ هذا الكلام مغاير لنصوص الكتاب والسنَّة، فأين يوجد في كتاب الله أو في سنَّة رسول الله القول بجواز مودَّة الكافر، وأين يوجد ذلك فيما سطَّره علماؤنا في كتبهم، أو ما طرَّزوه في مسائلهم.

فاللَّه ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول في محكم التنزيل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ" (الممتحنة: من الآية1)، وهنا نهي صريح عن إلقاء المودة للكافرين، ويقول _تعالى_ كذلك: "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" (المجادلة: من الآية22)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذه الآية:(أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي مودته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله)(9) ا.هـ.

ولذلك فإن هذه الآية لم تخص الذين حاربونا فقط من دونهم بل خصت الكفار أجمعين، وفي هذا يقول الإمام ابن حجر العسقلاني عن هذه الآية: (البرُّ والصلة والإحسان لا يستلزم التوادد والتحابب المنهي عنه في قوله تعالى(لا تجد قوماً...) فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل)(10).

وقد يقول قائل إنَّ المرحلة تقتضي كهذه العبارات، لتخفيف وطأة الكفَّار على المسلمين؟
ولكنَّنا نقول متسائلين كذلك: هل ورد مثل هذا الكلام من رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام حين كانوا مستضعفين في مكة، وحين كان الكفار يسومونهم سوء العذاب، رغم توفر الأسباب الداعية لذلك، ومحبة كفار قريش لتلاقي دينهم مع دين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن يداهنهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليداهنوه؟

إنَّ ذلك لم يكن ألبتة، مع أنَّ الكفار كانوا يودون أن يداهنهم رسول الله ـصلى الله عليه وسلَّم ـ ليداهنوه، فقد قال تعالى عنهم: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" (القلم:9)، قال أبو المظفر السمعاني – رحمه الله-: وقوله: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" أي: تضعف في أمرك فيضعفون، أو تلين لهم فيلينون)(11)، وذكر القرطبي – رحمه الله – على هذه الآية عدداً من الأقوال ثم قال: (قلت: كلها _إن شاء الله_ صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الدهان: اللين والمصانعة، وقيل: مجاملة العدو وممايلته، وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول)(12).

ومع هذا كله فقد أبى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يستمع لكلامهم بل قال بصريح العبارة: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (الكافرون:6)، وكان- بأبي هو وأمي – مقتفياً لقوله تعالى: "وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (المائدة: من الآية49).

وأمَّا ما زعمه بعضهم بجواز أن يقول المسلم للنصراني (أخي) واستدلَّ على ذلك بقوله _تعالى_: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"، ثمَّ ذكر أنَّ النصراني مؤمن من وجه، والمسلم مؤمن بوجه آخر، فلا شكَّ أنَّ هذا خطأ، لأنَّه _سبحانه وتعالى_ جلَّى هذه القضية بكل وضوح فقال عن الكفار: "وما هم بمؤمنين" وقال كذلك عنهم: "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ" (التوبة: من الآية11)، والذي يفهم من هذه الآية أنَّه لا أخوة سابقة بين دين الكفَّار ودين المسلمين إلا إذا دخلوا في الإسلام فهم إخواننا لهم مالنا وعليهم ما علينا، ومن جميل ما قاله الشيخ/ محمد رشيد رضا – رحمه الله – حول هذه الآية:(وبهذه الأخوة يهدم كل ما كان بينكم وبينهم من عداوة، وهو نص في أن أخوَّة الدين تثبت بهذين الركنين، ولا تثبت بغيرهما من دونهما)(13).

بل إنَّه مخالف لقوله _تعالى_: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" (الممتحنة: من الآية4)، قال الإمام ابن تيمية:(فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان)(14).

ولله درُّ الشيخ الداعية/عبدالرحمن الدوسري ـ رحمه الله ـ حين حذر من هذه الدعاوى المنحرفة، قائلا:ً(فانظر إلى إبراهيم إمام المسلمين ومن معه من الأنبياء كيف صرَّحوا بعداوة قومهم وبغضهم لأنَّ الله لا يبيح لهم موالاتهم أو مؤاخاتهم باسم القومية لأي هدف كان حتى يتحقق فيهم الإيمان بالله قولاً وعملاً واعتقاداً.

وأوجب الله علينا التأسي بهم، ذلك أنَّ مؤاخاة الكفار بأي شكل من الأشكال، ولأي غرض من الأغراض لا يكون أبداً إلا على حساب العقيدة والأخلاق بل لا يكون إلا بخفض كلمة الله واطِّراح حكمه ونبذ حدوده ورفض وحيه، ومهما ادَّعوا من الأخوة الإنسانية والعمل لصالح الوطن ومقاومة أعدائه ونحو ذلك من التسهيلات المفرضة، فإنَّ المصير المحتوم للمسلمين هو ما ذكرناه من تجميد رسالة الله وإقامة حكم مناقض لإعلاء كلمته والجهاد الصحيح في سبيله وتحكيم شريعته.
وما قيمة الإسلام إذا لم يكن هو الحاكم ظاهراً والمهيمن باطناً)(15).

والعجب أنَّه مع هذا التنازل من بعض المنتسبين للعلم ـ هداني الله وإياهم ـ وإطلاقهم لهذه الألفاظ على الكفَّار؛ لم تلق أذناً صاغية منهم، ولا يزال هؤلاء العصريون يميعون قضايا الدين، لإرضاء شرذمة الكفر، ويبقى الكفار يزدادون قتلاً وسفكاً واتهاماً للمسلمين بالتشدد تارة، والتنطع تارة أخرى، والإرهاب تارة أخرى، وصدق الله: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من الآية120)، ومن المهم حينها أن نعلم بأنَّ الكفار لا يريدون من المسلمين إلا الانسلاخ عن الدين، والكفر برب العالمين، ولن يكسب المسلمون من هذا كله دنيا هنية، ولا ديناً قوياً وأخشى أن نكون كما قيل:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وللحديث بقية، على أن نتابع ما بدأناه في حلقة قادمة _بإذن الله_.

_______________
(1) وقد وصف العلامة الراحل – محمود شاكر – رحمه الله هذه المصطلحات بأنها ( ألفاظ لها رنين وفتنة ، ولكنها مليئة بكل وهم وإيهام ، وزهو فارغ مميت فاتك ، توغل بنا في طريق المهالك ، وتستنزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال) انظر كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا )، صفحة ( 82 )
(2) بل هم المستخربين ، فلم يدخلوا بلدة أو قطراً مسلماً إلا وخربوه دينياً وحضارياً فحاشاهم الاستعمار.
(3) جذور البلاء، للأستاذ عبد الله التل، صفحة ( 265- 274 )، المكتب الإسلامي.
(4) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة – إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي ( 1 / 518 ) .
(5) رواه البخاري، في كتاب المظالم (4) باب (3)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب (45) باب تحريم الظلم حديث رقم ( 2580 ) كلاهما من حديث ابن عمر _رضي الله عنهما_.
(6) زاد المسير ، لابن الجوزي ( 8/ 217 ) .
(7) فتح القدير ( 3/ 270 ).
(8) قال ابن رجب ( ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملاً ويظهر أنه قصد به الخير ، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض سيء ، فيتم له ذلك ، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ، ويفرح بمكره وخداعه ) وصدق رحمه الله – جامع العلوم والحكم/صـ378 .
(9) مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/17)
(10) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (5/233)
(11) تفسير السمعاني (6/20 ) .
(12) تفسير القرطبي (18 / 230 ) .
(13) تفسير المنار ، لرشيد رضا (10/187).
(14) مجموع الفتاوى (28/228) .
(15) مقطع من خاتمة للشيخ الدوسري على كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد للإمام : محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ ضمن كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين للشيخ / عبدالله العبدلي الغامدي ـ رحمه الله ـ صـ101).