أنت هنا

حماس فى السلطة .. المكاسب والتحديات
30 ذو الحجه 1426

فعلها شعب الجبارين، حقق الفلسطينيون أول حالة انتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر، وزادوا على هذا أن انتقال السلطة جاء بالتحديد إلى فصيل إسلامي يمارس الكفاح المسلح، وعلى أسس عقدية، بل وهو الفصيل الذي عملت كل قوى الأعداء على استبعاده أصلا من الساحة السياسية الفلسطينية، وشملت وسائل الاستبعاد كل ما يملك الأعداء من قوة ونفوذ على الأرض الفلسطينية المحتلة والمحاصرة بدءا من التهديد بالتجويع وانتهاء بإعادة احتلال المناطق المحررة والاغتيالات والتنكيل بالشعب الفلسطيني.. مروراً بالحصار السياسي ومنع المستحقات الجمركية ومقاطعة أية سلطة تشترك فيها حماس دولياً.. ولكن الأكيد الذي تحقق حتى الآن من الفوز الساحق لحماس، هو عودة معسكر الأعداء إلى المربع رقم واحد ليطالبوا مجددا بالاعتراف "بحق الوجود" للكيان الصهيوني، بعد أن كانت الآمال الفلسطينية قد انحسرت في اعتراف الكيان الصهيوني بالسلطة الفلسطينية المنقوصة والمحاصرة، كما أنه من المؤكد أيضا أن وصول حماس إلى السلطة سيقلب الموازين ليس فقط في الداخل الفلسطيني، ولكن أيضا على مجمل خارطة الصراع العربي الصهيوني، كما سيلقى بظلاله على مشاريع التحول "الديموقراطي " التي تبنتها معظم نظم المنطقة وفق الخطة الأمريكية، كما أن منظمة التحرير الفلسطينية والتي طالما وصفت بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني قد أصبح لمكوناتها المتعددة فرصة تاريخية لإنهاء حالة اختزال المنظمة في تنظيم واحد.
ويبدو أن الأعداء الآن هم الذين يخططون بالأماني وليس بالحسابات الواقعية، فبالرغم من ورود النتائج النهائية للانتخابات الفلسطينية بزيادة غير متوقعة في نصيب حماس ـ تتراوح هذه الزيادة عن تقديرات المراقبين الجادين بحوالي 10 % ـ إلا أن توقع فوز حماس في الانتخابات على فتح كان الاحتمال الأكثر ترجيحا، وقد سبق أن أشارت صناديق الاقتراع في انتخابات البلديات ـ على ما شابها من ملاحظات وخروقات ـ إلى فقد الشارع الفلسطيني الثقة في ممثلي نهج الاستسلام والخضوع المجاني للشروط الأمريكية والصهيونية، ولوحت الجماهير الفلسطينية بشق عصا الطاعة للقيادة التاريخية الفتحوية، ولكن الواضح أنه لا فتح، ولا الحكومات العربية، ولا العدو الصهيوني، ولا الأمريكان وأوروبا قد أدركوا معنى الرسالة الفلسطينية، ولهذا خرجت عناوين الصحف ووكالات الأنباء بعناوين تنم عن حالة الصدمة.. والمفاجأة.. والفجيعة.. على حد سواء، فجاءت التشبيهات للحدث بالزلزال، والإعصار، والارتباك، ولعل أكثر العناوين تكرارا لوصف حال القوى المختلفة في الداخل الفلسطيني وإقليميا ودوليا هو (إعادة الحسابات ).. فهل حقا جاء الانهيار الفتحاوي مفاجئا، وهل تحقق الانتصار لحماس صدفة، أو كما فهمه البعض اعتراضا على فتح وليس حبا في حماس ؟!
فتح.. من الثورة إلى السلطة
بداية لابد من قراءة نتائج الانتخابات لكل الفصائل والتيارات، ومع الأخذ بعين الاعتبار كل الضغوط والإغراءات والتهديدات التي مورست على الناخب الفلسطيني للابتعاد عن حماس على وجه التحديد، فقد فازت حماس بستة وسبعين مقعدا وهو ما يمثل ما يزيد على 57 % من إجمالي المقاعد وفتح 43 مقعدا ـ ما يقترب من 33 %، والجبهة الشعبية 3 مقاعد، وكل من الطريق الثالث " سلام فياض وحنان عشراوي "، وقائمة فلسطين المستقلة بمقعدين لكل منهما، وهناك أربعة مقاعد لمستقلين مقربين من حماس، ولو استبعدنا المقاعد المخصصة للمسيحيين، والتي صبت جميعها لصالح فتح لقل نصيب فتح بصورة كبيرة.. هذه الصورة توضح أن المقاعد التي فقدتها فتح ذهبت جميعها إلى حماس، ولو صح التفسير بعقاب فتح من جانب الناخبين لتوزعت هذه المقاعد بشكل عشوائي أو حتى لذهبت لقائمة مروان البرغوثي، أو الطريق الثالث، ويرجح صحة هذا التحليل كم ونوعية المخاطر والمشكلات المتوقع مواجهتها نتيجة حصول حماس على أغلبية كاسحة، والتي يعلمها المواطن الفلسطيني يقينا، ولم يدخر أي من الأطراف جهده لإبرازها والتهديد بها طوال مدة ما قبل الانتخابات إلى حد المطالبة بعدم السماح لحماس بالدخول فيها، بل ولم يقتصر صعود حماس على نصيب فتح وحدها، ولكنه شمل كافة الأطياف السياسية والتنظيمات التاريخية المكونة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك كافة المناطق والدوائر الانتخابية، وهو ما يقطع بأن انتصار حماس الساحق في أساسه يمثل خيارا استراتيجيا، وليس ردة فعل مؤقتة.
لقد مثلت فتح المكون الرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ بدأت بدعم من المشروع القومي بقيادة مصر الناصرية، وحملها هذا المحدد بالعديد من القيود التي لازمتها ووضعت سقفا لها مرتهن بالسقف السياسي للنظم العربية، وقد كان طبيعيا وهذا حالها أن تصل إلى أوسلو، وأن تحد مكاسبها في أوسلو بموازين القوى العربية الرسمية بكل ارتباطاتها وتورطاتها، فتحصل على سلطة لا تحمل من معنى السلطة إلا الاسم، ولتبدأ في تسديد فواتير ضعفها وضعف النظام الرسمي العربي من مصالح المواطن الفلسطيني، وكان طبيعيا أن تفرز هذه الظروف قدرا كبيرا من الاختراقات في المستويات المختلفة للتنظيم، كما كان طبيعيا أن تصعد قيادات تقبل بالواقع الراهن أكثر من القيادات التي تحاول تغييره، وقد انعكس ذلك في ما لم يعد خافيا، بل يصرخ به كل الأطراف داخل فتح، من انحرافات، وإدمان للسلطة، وتهميش القوى الأخرى، والانفراد بالثروة، وفساد.. وقد كان هذا كافيا لتدمير أية مصداقية، إلا أن الصهاينة والأمريكان والمجتمع الدولي بل والدول العربية، لم يروا هذا كافيا، فراحوا يمارسون الضغوط على السلطة المنهكة لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات المجانية، ويمارسون أبشع أنواع الضغوط على رؤسائها من عرفات لأبي مازن، ويدخلونهم في الحرج تلو الحرج حتى أتوا على كل مصداقية، ليس لهؤلاء القادة فحسب بل لكل ما روجوا له من مزاعم السلام، لقد فقدت فتح بتحولها من الثورة إلى السلطة كل مقومات استمرارها على رأس النضال الفلسطيني، وتواكب هذا مع انهيار النظام الرسمي العربي وتحوله إلى التبعية شبه الكاملة للمخطط الأمريكي الصهيوني، ما نزع ورقة التوت الأخيرة عن مسار التسوية على الطريقة الأمريكية.. ولا شك في أن هذا التحليل ينطبق بهذا القدر أو ذاك، في كل أو بعض جوانبه، على فصائل منظمة التحرير الأخرى، وهو ما أخضعها لنفس النتائج، فعلى مدى عمر السلطة الفلسطينية ـ ما يزيد على إحدى عشر عاما ـ تراكمت الإخفاقات والتراجعات ومظاهر الفساد لتصنع الطريق الهابط لمكونات النضال الفلسطيني التقليدية جميعها.
صعود حماس.. الأسباب.. المكاسب والتحديات والنتائج المحتملة
لم يأت صعود حماس إلى سدة النضال وبالتالي الوصول إلى أكبر شعبية بين فصائل الشعب الفلسطيني فجأة أو صدفة، فمع انتقال النضال الفلسطيني إلى الداخل بالانتفاضة الأولى التي وئدت بيد التوازنات التي تحكم حركة فتح، كان من الطبيعي أن يحتكم الفلسطينيون إلى النضال والتضحيات على الأرض لتحديد ولائهم، وقد ولدت حماس في المعترك الداخلي على الأرض متحررة من القيود الإقليمية للفصائل الأخرى العائدة من الخارج، وقد حد من انتشارها في البداية الزخم الذي دفعت به " عملية السلام " وروح الهزيمة التي انعكست على الجماهير العربية والإسلامية نتيجة اندحار المشروع القومي، وانسحاب مصر من معسكر المواجهة إلا أن الانتفاضة الثانية مثلت نقطة انطلاق قوية لحماس خاصة مع افتضاح الأبعاد الحقيقية للتسوية السلمية، وجاء الزخم الأكبر للحركة بعد بروز المقاومة الإسلامية العراقية كند قادر على هزيمة ودحر الهجمة الأمريكية، الأمر الذي سلح الجماهير بالثقة الضرورية لتحقيق النصر، إضافة إلى ما أسهم به العدو نفسه من دعم حيث بدا واضحا أن العدو لن يعطى شيئا بالانكفاء والتراجع.
ومن ناحية أخرى فقد عمدت أمريكا في إطار نظامها العالمي، على ضرب كل مصداقية للمنظمة الدولية، وما أصطلح على تسميته المجتمع الدولي، ناهيك عن الانهيار الكامل لجدوى النظام العربي الرسمي.
والمسألة الأهم هي اعتماد حماس للعقيدة الإسلامية كأساس للبناء والمواجهة وهو الأساس الذي أثبت في غير تجربة قدرته ونجاعته في التصدي لقوى الاستكبار العالمية.
والحقيقة أن حماس قد قدمت نموذجا في الارتباط بالجماهير فاهتمت بالمشكلات المعيشية والاجتماعية، وقدمت الخدمات، والأهم أنها قدمت نماذج للطهارة والبعد عن المصالح الذاتية في خدمة المواطنين.
لقد جاءت حماس إلى السلطة إذن كنتيجة منطقية لنجاحاتها وأخطاء الآخرين، ولكنها بالوصول إلى السلطة تبدأ ومعها الفصائل الفلسطينية جميعا وليس فتح فقط مرحلة جديدة حرجة.. فبداية هي قد جاءت على رأس سلطة موجودة وفق اتفاقيات أوسلو التي ترفضها، وهذه الاتفاقيات قد أسست على اعتراف منظمة التحرير بالكيان الصهيوني وبحقه المزعوم في الوجود على أرض فلسطينية مغتصبة، وبإقرار على اتخاذ المفاوضات وسيلة لحل المشكلات بين الطرفين، وفي ظرف عربي هو الأسوأ في تاريخ الصراع، وظرف لا يقل سوءا على مستوى العالم الإسلامي.. أما الحالة الدولية فحدث ولا حرج، فالخريطة السياسية لعالم اليوم في حالة سيولة، والتكتلات الدولية تمارس اللعبة لتعديل أنصبتها، ولا وجود لأية ثوابت يمكن الاعتماد عليها في التكتيكات إلا توفيق الله " وكفي به وكيلا ".
وقد أعلنت فتح على لسان أكثر من قيادي ومسؤول أنها لن تشارك في حكومة تشكلها حماس، وبلهجة تنم عن رغبة في إحراج حماس وعدم إعطائها الإمكانية التي حظي بها حزب الله في لبنان، كما أعلنت الدول المانحة تعليق المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية ـ التي تعتمد بشكل كامل على هذه المساعدات ـ على شرطين ( الاعتراف بالكيان الصهيوني ـ وتحول حماس إلى حزب سياسي وإلقاء السلاح ) أعلن هذا الأمريكيون والأوربيون، وبالطبع أعلن الكيان الصهيوني امتناعه عن تحويل المستحقات الجمركية، ولا يمكن الاطمئنان إلى الحصة العربية من المساعدات في إطار الحالة العربية الراهنة.. كل هذا يطرح سؤال: هل صعدت حماس إلى السلطة في توقيت مناسب ؟! وهنا لابد من النظر لحالة الكيان الصهيوني من الداخل، فللمرة الأولى منذ اغتصاب هذا الكيان لأرض فلسطين يتحدث قادته عن تعيين حدود الكيان الصهيوني، وهذا يمثل تراجعا في عقيدة إقامة هذا الكيان من جانب، ولكنه من جانب آخر يشير إلى انتقال الكيان من شعار " إسرائيل الكبرى " إلى شعار " إسرائيل العظمى " في إطار المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، وهو ما يعنى أن عنصر الوقت بات يسير في غير صالح المخطط، ويأتي هذا الانتقال بحرق المراحل للحصول على أكبر قدر من المكاسب قبل ظهور نتائج الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان.. وبهذا المعنى يكون صعود حماس إلى رأس السلطة في فلسطين المحتلة مكسبا استراتيجيا.. هذا من جانب.. ومن جانب آخر يمثل فوز حماس فرصة تاريخية لإعادة صياغة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، لإحياء أدوار كل المستبعدين نتيجة الممارسات السابقة، وخاصة الفلسطينيين في الشتات، لإعادة قضية العودة إلى مكانها الصحيح على رأس جدول الأعمال، وهى في النهاية قد جاءت في الوقت الصحيح، لدفع كافة الفصائل الفلسطينية التي تكلست إلى تجديد دمائها وإعادة حساباتها وتصحيح أخطائها وتطهير صفوفها، وهو ما سيعود على مجمل الجهاد الفلسطيني بالنفع ويعيد الثوابت الفلسطينية التي ردمت تحت تراب الاستسلام للأمر الواقع، ليطرح العقل الفلسطيني من جديد الأسئلة الصحيحة، كبداية منطقية للوصول إلى الإجابات الصحيحة، كما أن الحالة الدولية، وأوضاع الكيان الصهيوني نفسه، هي التي ستقدم لحماس إجابات الأسئلة الحرجة، وقد لا يأتي الحرج إلا من المحيط العربي والإسلامي.