أنت هنا

حتى لا يقترب الإسلام من السياسة!!
5 ربيع الأول 1427

اعتاد العقل العربي في عموم ما اعتاده، الأخذ بالمفهوم الشائع للعلمانية، دون الوقوف عند مضامين هذه العلمانية الحقيقية، لغة واصطلاحا، ومن دون التدقيق في مغزاها الحقيقي، وفي مرجعيتها التاريخية، فكل ما علق بالعقل العربي من تعريف، هو أن العلمانية بشموليتها تعني فصل الدين عن الدولة، وإبعاد أي شكل من أشكال التعامل السياسي مع كل ما له صلة سواء من قريب أو من بعيد بالدين مهما كان هذا الدين، حتى لو كان هذا الدين هو الإسلام، الدين الحق. قال سبحانه وتعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً" (المائدة: من الآية3)، وقال أيضاً: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" (آل عمران: من الآية85).

و من البديهي جدا أن يبقى العقل العربي حبيس الفهم التقليدي القديم للعلمانية- التي تعرف باللائكية في بلاد المغرب العربي- وتعريف المجتمع الغربي لهذه العلمانية من زاويته الخاصة، لأن نفس العقل لا يزال يعاني من الترسبات الأيديولوجية الاستعمارية، ومن تراكمات المسخ العقائدي الذي ما انفك الاستعمار الصليبي يفرضه عليه بالحديد والنار لعقود زمنية طويلة، كما لا يزال على وقع التحرشات الكبيرة ضده من لدن قوم يعيشون بين ظهرانينا، لكنهم في واقع الأمر أزلام من طراز رفيع، يعيشون على ذكريات المحتل المستبد، همهم أن تبقى آثار الاستعمار ولو من غير تكليف رسمي استعماري.

ولقد وجدت العلمانية للأسف الشديد ضالتها، ومكانتها داخل المجتمع العربي الإسلامي، بفضل هذه الشرذمة الضالة، التي تعودت على خدمة الاستعمار مجّانا، كما تعودت على اجترار أفكار الغرب، والاعتياش على شقشقتها، حتى وإن كانت هذه الأفكار مقصلة تأخذهم إلى القبر.
في الواقع لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز على ما هو متداول اليوم من تعريف للعلمانية، بشكل واسع سواء داخل أوساط العوام، أو لدى الخاصة من النخبة في الوطن العربي الإسلامي، وهو فصل الدين عن الدولة نهائيا.ولطالما صدع العلمانيون العرب رؤوسنا بهذه النغمة القديمة، التي لا تنطق إلا وهي مقرونة بالديمقراطية، وبتلك المصطلحات الجميلة، التي سنامها الحرية بكل تفرعاتها المختلفة- فيكفي أن يتلفظ العلمانيون بالديمقراطية حتى تأتي تباعا من غير تكليف، كلمة الحرية-. لكن العلمانية في معناها الواسع، وما يطمح إليه الغرب بكل مشاربه المفاهيمي، هو طمس كل ما هو ديني، وتحديدا طمس الدين الإسلامي، واستئصال وجوده من كل مناحي الحياة، هذا الدين الذي بات يمثل خطرا على الجنس المتحضر في الغرب، كما بات كل منتسب إليه يشكل سلاحا خطيرا على البشرية جمعاء.

ولقد وقفنا بشكل جلي، على التعريف الحقيقي لهذه العلمانية التي كانوا يمنوننا بها، ويبشروننا بها، سواء أصحابها من الغرب، أو من جنودها الممسوخين من داخل مجتمعنا العربي، عندما فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة، واستحوذت على أغلبية المقاعد البرلمانية، لقد رأينا كيف أن العلمانيين في الداخل والخارج هاجوا وماجوا، وأصيبوا بجنون هستيري فقط، لأن حركة حماس الإسلامية، استطاعت أن تقنع الشعب الفلسطيني بجدية مسلكها السياسي، وببرنامجها الذي عنوانه لا يحيد أبدا عن المعاني الكبيرة للإسلام، وبمنطلقها الفكري الذي يعادي قلبا وقالبا علمانيتهم، لأن فوز حركة حماس الإسلامية، في واقع الأمر والحال هو فوز الإسلام، الذي يعني عودته مرة أخرى إلى الساحة السياسية، الذي يعني محاصرة العلمانية التي كانت حركة فتح حاميتها في المنطقة، الذي يعني كسر شوكة كل الرافد الغربي الاستعماري، وليس إسرائيل فقط، وقطع كل أشكال التبعية، وكل أشكال التدخل في السياسة الداخلية الفلسطينية.

كما رأينا بالأمس القريب فقط كيف أن الغرب بقضه وقضيضه، وبكل ما يملك وقف ضد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر، -الذي كان فوزاً للإسلام، ولتعاليمه، مهما كانت التحفظات على أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لن تستطيع تطبيق الشريعة الإسلامية-، رغم أن العملية الانتخابية تمت بكل شفافية، وبكل ديمقراطية، وباعتراف الحكومة الجزائرية نفسها على لسان وزير الداخلية الأسبق، والسفير بالمغرب حالياً، العربي بلخير، بأن الانتخابات جرت في جو ديمقراطي قل نظيره في العالم. لكن رغم هذا الاعتراف المسجل في الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية، والمسجل في وسائل الإعلام، فقد تم إيقاف المسار الانتخابي ليس بإيعاز من الجنرالات في الجزائر فقط، وإنما بإيعاز من القوى الغربية، خصوصا فرنسا صاحبة الحرية وحقوق الإنسان، التي عبرت آنذاك على لسان (رئيسها الراحل) فرانسو ميتران، عقب ظهور النتائج الأولية، وفوز التيار الإسلامي بأغلبية ساحقة، بأن الأصولية الإسلامية لا يمكن لها أن تحكم في الجزائر.وكان منتظرا ذلك، ولم يكن صراحة أمرا غريبا في تلك الفترة، خصوصا وأن فرانسو ميتران ما فتئ يطلب من (الرئيس الأسبق) الشاذلي بن جديد حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكن الرئيس الشاذلي بن جديد الملقب بأبي الديمقراطية في الجزائر، كان صارما في قراره، مخاطباً الرئيس فرانسوا ميتران، أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تيار شأنه شأن التيارات الأخرى في الجزائر، وإذا كنت قد منحت الاعتماد لحزب شيوعي، فليس من العدل أن لا يكون للتيار الإسلامي نفس الحق.

فالتحرك الفرنسي بمعية القوى الغربية، والأزلام من الدول العربية، من أجل وأد العملية الديمقراطية الحقيقية في الجزائر، التي هي الأولى في العالم العربي، كان تحركا الهدف منه إنقاذ العلمانية التي خربت المجتمع الجزائري في العلن، وحماية المصالح الاقتصادية، ووضع الحواجز مهما كلف الأمر أمام وصول الإسلام إلى سدة الحكم في السر بعد ذلك، لأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لو قدر لها وشكلت حكومة فهذا وحده كفيل بأن يقطع حبل السرة مع كل أصناف التعاملات الغربية.
ولن ندخل في وحل الماضي، والغوص كثيرا فيه، لكن يجب الاعتراف والتسليم، أن لا أحد إلى الآن يستطيع أن يصدق المقولة التي روج لها عتاة العلمانية في الجزائر، من طرف السلطة ومن طرف المعارضة، كون الذي حدث في الجزائر من دمار، وقتل، وتشريد، كان باسم حماية الديمقراطية.

والمتمعن في كل ما جرى لاحقا، يدرك أن العملية في مجملها كانت تهدف إلى عدم السماح للإسلام أن يأخذ زمام الأمور مرة أخرى، وفرنسا على وجه أخص لا يمكن لها أن تسمح بعودة الإسلام إلى الساحة، وهي التي كانت تحاربه بالأمس، والتاريخ الصدوق يذكر حسب ما قاله الشيخ محمد الغزالي في كتابه"الاستعمار أحقاد وأطماع" كيف أن" القائد الفاجر"روفيجو" وقف ونادى في قومه بأنه يلزمه أجمل مسجد ليجعله معبدا لإله المسيحيين، وطلب إلى أعوانه، إعداد ذلك في أقصر وقت ممكن، ثم أشار إلى مسجد كيتشاوة، لأنه كما قال أجمل المساجد في الجزائر، وهو في وسط المدينة، وفي قلب الحي الأوروبي( وهو الحي الذي يعرف بحي القصبة العتيق، حولته فرنسا إلى حي أوروبي فور احتلالها للجزائر العاصمة)، وبالفعل تحدد ظهر يوم 18 من ديسمبر سنة 1832لإنجاز هذا العمل، وتحقيق تلك الرغبة".

إذن العلمانية لم تعد فقط تعني فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن الحياة الخاصة والعامة للإنسان، لأن الدين ابتداء مفصول عن حياة الأمة العربية الإسلامية، ولا يوجد ميدانيا إلا ضمن شعارات جوفاء منذ سقوط الخلافة الإسلامية نهائيا سنة 1924، بل هي تعني في مضمونها العصري الحقيقي، أن لا يحاول الدين الذي هو الإسلام الاقتراب مرة أخرى من السياسة، ويجب أن يبقى ضمن إطار شخصي، لا يتعدى حدود العبادات والصلوات، والطقوس التعبدية التي تتمحور حول الرقية والجان، وعذاب القبر، ونواقض الوضوء، وهلم جرا من الطقوس التي يحبذها، ويشجعها الغرب العلماني، وتحرس على إحيائها الأنظمة العربية المتعلمنة زورا وبهتانا، المنضوية تحت لواء المحاربين للإسلام السياسي، ولكل ما يمت إليه بصلة قرابة، وحاليا في كل الدول العربية هناك حظر لجميع الأنشطة السياسية ذات اللون الديني الإسلامي، كما أن السجون مفتوحة لمن تسول له نفسه مجرد التفكير في تأسيس حزب يتغذى من المفاهيم الإسلامية.

ولهذا نجد الغرب، وعلى رأسه أميركا في الوقت الحاضر يشجع كل الأنظمة العربية التي تحارب التيارات الإسلامية تحت غطاء مكافحة الإرهاب، كما يشجع كل صوت نشاز يدعو إلى عصرنة المجتمع العربي باسم العلمانية، وباسم طرح كل ما هو تقليدي بائد يعود إلى القرون الوسطى.
وما أكثر أذناب هذا الغرب الذين يحملون نفس أسمائنا، ويتحدثون لغتنا، لكن حقدهم على الإسلام، ومعاداتهم لنا أشد وأنكى من حقد، وعداوة الغرب نفسه، وقد قرأت بعض الترّهات لواحدة من الأذناب، وهي طبيبة نفسانية متأمركة من أصول عربية تقول عن نفسها أنها غير مسيحية، وغير ملحدة، كما تقول عن نفسها أنها خبيرة ديانات، وخبيرة في القضايا المتصلة بصراع الحضارات، إضافة إلى كل ذلك أنها فوق النقد، تعلم الناس الاحترام، والأدب الأميركي الراقي وفي نفس الوقت تصف كل مخالف لها بالضبع المفترس، ضاربة بعرض الحائط كل ما تتشدق به من حضارة، وإيتيكيت عصري، والأدهى والأمر من كل ذلك أنها بحكم تركيبتها الحضارية الراقية جدا، فضحت نفسها، وفضحت الجهة التي تعمل لصالحها من دون أن تدري، ما كتبته هذه المفكرة الكبيرة عن الرسول _صلى الله عليه وسلم_، لا أظنه يضاهي ما وضعته تلك الرسوم الدانمركية، من وضاعة، وحقارة، وحقد كبير، فوصفها لتلك الرسوم، والمبالغة في شرحها، وإعطاء المبررات لإظهارها، كشفت فعلا الوجه الحقيقي لمثل هذا الصنف الذي يعتمد عليه الغرب، في نخر صفوف المسلمين على تشتته، وتشويه الصورة الناصعة للإسلام.

فهذه الجاهلة بحقيقة هذا الدين العظيم الذي يستهوي الإنسان العادي قبل العالم الكبير، لم يسعفها حقدها، وعقدة الصغار أمام تكنولوجية الغرب، و تركيبتها النفسية المريضة، كي تنظر إلى وجهها القبيح، وتجلس مع نفسها قليلا، وتفكر بأن الأمريكان أنفسهم الذين تستجدي بهم في حربها الضروس ضد الإسلام و المسلمين، يعترفون بعظمة هذا الدين، ومدركون لدورها الكبير، وتفانيها في خدمتهم، وسيكون حظها كحظ ذاك الرجل الذي قدم خدماته لنابليون بونابرت في حملته على مصر، ولما راح يأخذ جائزته على خيانته لوطنه ومد يده مصافحا بونابرت رفض هذا الأخير، مخاطبا إياه، إن يد نابليون لا تلمس يد خائن، وأمر له بكيس من المال، آمرا حراسه بطرده ركلا.
والقائمة ستظل مفتوحة لمثل هذا الصنف من العملاء، ليعربد كيف يشاء، ويطعن في دين هذه الأمة كما يحلو له، وفق طلب سيده في الغرب، مادام الوضع الداخلي في العالم العربي الإسلامي لم يحسم بعد لصالح الخيرين من أبنائه البررة، الذين يدركون مكمن قوة هذه الأمة، ويدركون أن العزة في ما أعزهم الله به، وإن طلبوا غيره أذلهم الله.

والغرب الحريص على أن لا تقوم قائمة للمسلمين، بحرمانهم من كل مشاركة سياسية تعيد لهم كبرياءهم، يفضل أن تنوب عنه أمثال هذه الطبيبة، في زرع اليأس داخليا، ثم يأتي بما يهدم البنيان ويجعله قاعاً بلقعاً بعد ذلك. وما تقوم به أميركا في الوقت الحالي من تسخير كل ما من شأنه إنجاح مشروع إصلاح الأنظمة التربوية في العالم العربي والإسلامي، الذي تضطلع به ابنة ديك تشيني ليز، التي تفاخر في العلن بأنها غير متزوجة وتمارس السحاق، هو خير دليل على أن الهدف الكبير لما يتوخاه هو ألا يقترب الإسلام من السياسة نهائيا، خصوصا وأن الغرب- أميركا- يفقه جيدا قيمة هذه العلمانية في مشاريعه الإستراتيجية التوسعية، ويدرك طبيعة العلاقة بين الإسلام كدين منظم للحياة، وبين الشعوب العربية الإسلامية التي ما خيّرت بين الإسلام وغيره من الأيديولوجيات إلا اختارت الإسلام عن قناعة، وإيمان، وكفرت بكل ما يفد من الغرب من أيديولوجيات تحت أي مسمى كان....
-------------
*كاتب وإعلامي جزائري