كل أمر ذي بال فقدم له
25 ربيع الأول 1427

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن الدنيا دار تتقلب فيها الأحوال ويعرض للمرء فيها ما يسوؤه وما يسره، ما يخالفه وما يوافقه، وفي بعض الأحيان تعجز النفوس عن تقبل ذلك الوارد، وإذا أمعنت النظر في السبب بدا لك أن ما ورد تقبلته نفوس ولم تحصل لها من المفسدة ما حصل لآخرين، بل ربما اختلف حال المرء نفسه جراء خبرين فأعمل فيه أحدهما أثراً سلبياً عظيماً، ولم يعمل الآخر في نفسه كبير أثر.

ولذلك أسباب كثيرة، ولعل من أهمها: تهيؤ النفس لتلقي الخبر من عدمه، هب أن رجلاً غافلاً آمناً أمسك به أحدهم على حين غرة فلوى يده خلف ظهره حتى كسرها، أو جاءه صبي على حين غفلة فروعه بصوت أو بصفع أو غير ذلك، فهل كان لهذا الصبي أو للأول الوصول إلى ما أراد إن كان المباغت مهيئاً لهما؟ لا أظن ذلك ربما ارتاع في الأول من الصبي، وبالمقابل ربما ضحك في الثاني منه.

وكذلك إذا وضع أحدهم عوداً على دعامتين، وجعل أسفل ما سوى الطرفين خلاءً فلم يجعل على منتصفه دعامة، ربما سهل كسر بمثقل يرمى عليه، بخلاف ما لو جعل له دعائم على امتداد العود.
وهكذا وقع الأخبار على النفوس، بل القرارات والأحكام التي تأتي على غير مرادها، وتخالف مألوفها أو أصلاً كانت عليه.

ولهذا كان من الأهمية بمكان تهيئة من حمل إليه خبر من هذا القبيل، فإن كان لابد أن تلقي خبراً ثقيلاً على أحد فاختر الحال المناسبة حتى لا تكسر ظهره، أو هيئه ليستقبل الخبر.
وهذا المنهج منهج قرآني، ولعل أمثل مثال يوضح ذلك خبر نبي الله يعقوب، فقد أجرى الله معجزة خارقة للعادة، ولعل من أسباب ذلك مراعاة ما ذكر.

قال الله _تعالى_: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ" ما سر هذه الريح أين فصلت؟ قالوا: فصلت، أي: خرجت من مصر ودخلت في حدود الشام، عندها قال يعقوب _عليه السلام_ للحاضرين من أهله وأبناء بنيه: "إني لأجد ريح يوسف"، قال الرازي: "التحقيق أن يقال: إنه _تعالى_ أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة، فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما، والأقرب أنها ليعقوب _عليه السلام_، حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي، فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له"، وهذا هو الظاهر فإن المعجزة إن كانت ليوسف _عليه السلام_ لكانت لوجد ريح قميصه القاصي والداني، ولكن الإعجاز كان في شم يعقوب أو في وصول الريح له خاصة.

فدلت هذه الآية على اعتبار نفوس الناس وأهمية تهيأتها عند التعامل معهم، وأوضحت المعجزة أهمية المقدمات للأخبار المفاجئة، وهكذا فعل يوسف _عليه السلام_ مع إخوانه قبل أن يخبرهم أنه هو يوسف وهو خبر مفاجئ بالنسبة لهم فمهد بخلقه ودله وسمته، ثم مهد بسؤال فقال: "هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ" [يوسف:89] فتبادر الأمر الواقع إلى أذهانهم، وهنا كانت ريح القميص تمهيداً ليعقوب _عليه السلام_ فشم الرائحة قبل وصول الخبر، وتلك من إرهاصاته.

فالأخبار إذا جاءت فجأة فقد يكون لها تأثير وانعكاسات على النفس لا تحمد عقباها، وهذا يؤكد أهمية العناية بالقضايا النفسية، فإذا رأيت مبتلى أصابته مصيبة لم تكن له في حسبان، فالكَيْس الكَيْس، انظر كيف تخبره وتدرج عليه وقع الأمر شيئاً فشيئاً، وربما راعى بعض الناس هذا في الأخبار المحزنة وغفل عن مراعاته في الأخبار المسعدة، وكم وقعت بسبب خبر سار مفاجئ لم يتوقعه المرء انعكاسات سلبية.

وقد أثبت المؤرخون ورواة الأقاصيص خبر من فجئ بالخبر السعيد فمات، وخبر من فقد عقله بالكلية، وخبر من فقد صوابه في موقفه، وربما كانت تلك الأخبار التي يذكرها المؤرخون لها أسباب معقولة مقدرة، ويغني عنها ويشهد للمعنى الذي نريد منها ما يتناقل من أخبار بعض الرياضيين، فمن ميت كمداً بسبب هدف دخل مرمى فريقه- الذي ربما فاز بعد! ومغمى عليه سعادة بسبب هدف أصابه فريقه، الذي ربما انهزم(1) بعد!

وهذا وإن دل على سفه العقول إلاّ أنه يبين أثر المفاجأة المسعدة أو المحزنة على بعض الناس، ولاسيما إذا ضعف القلب ورق، إما لأمور عادية من نحو مرض وكبر سن وغيرهما، أو لأمور أخرى كتراكب هموم، وضعف نفس. والشاهد أن في تلك التهيئة لتلقي النبأ درس تربوي جدير بالتأمل.

فاحرص أخي الكريم إن جئت بخبر ثقيل على ألا تدق به عنق من تخاطب، وتذكر أنك بحاجة إلى تذكر ذلك في حال السراء والضراء، والله أسأل أن يحفظنا وإياكم، وأن يعافينا ويعفو عنا، وأن يرزقنا الكيس في الأمور كلها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

_____________
(1) ولا أدري هل إطلاق الفوز والانهزام يصح هنا! ولكنه على حد ما زعموا.