أنت هنا

المجروح !! (1)
27 ربيع الأول 1427

ألم فوق الطاقة.
"رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ" (البقرة: من الآية286).
من أكبر الآلام المعذبة للنفس، المتعبة للروح: أن تسمع بطفل، يعيش ويكبر من غير أبوين، ولا إخوة، ولا أسرة، ولا قرابة. وحيدا، غريبا، متوحشا، ليس له صلة بهذا العالم. لا يدري كيف جاء، ومن أين ؟.
يسمع بالعائلة والأسرة، فيذهب بخياله بعيدا، لعله يدرك ما يحدث فيها من حنان، ومحبة، ودفء، واهتمام، ورعاية !!.. لكنه يرجع بخيال عاجز عن الإدراك..!!.
فهو يوما لم يذق طعم الأسرة، وكيف يذوقه، وهو الغريب عنها بالكلية ؟!!، فكأنها في بلد، وهو في آخر .. وكأنها في زمن، وهو في زمن آخر .. وكأنها من الغيب، وهو في عالم الشهادة !!.
وإذا ما أراد أن يتصور العلاقة بين الطفل وأمه، والطفل وأبيه، فذاك أمر فوق التصور، وفوق الطاقة؛ فإنه لم يحسّ لحظة حنان الأم، و لم يلمس ساعة عطف الأب..!!.
إذا سئل عن أبيه، وعن لقبه، وعائلته: سكت حائرا، مهموما، باكيا؛ إذ لم يعثر على إجابة ؟!!..
فنفسه عاجزة عن الجواب.. هو الذي يسأل نفسه: من أنت، ومن أبوك ؟!!.
وإذ لم يجد أباه، بقي متسائلا مستنكرا: هل لا بد لكل طفل من أب ؟!.
- ينشأ محروما من أعز الناس، وأهم الضرورات، وأبسط الأماني وأقلها..!!.
- ينشأ وإنسانيته مجروحة جرحا لا يلتئم أبدا ..!!.
- ينشأ ولا أحد إلى جانبه. لا أحد تماما ؟!.. ينشأ وحيدا.. وحيدا.. غريبا.. غريبا..!!.
- ينشأ كسير النفس، مهيض الجناح؛ فعزّ الإنسان وكرامته من: والديه، وإخوته، وقرابته. ولا شيء لديه من هذه المعزّات!!.
هل يستطيع أحد أن يحتمل هذا ؟.
فكيف بطفل ينشأ هكذا ؟!!.. إلى أي حال سيكون، وإلى أي شيء يؤول ؟!.
إنه لألم يحرك في الإنسان كل شيء:
- يحرك فيه: الحرقة، والحزن، والكآبة، والضجر.
- يحرك فيه: الغضب، والاستنكار.
- يحرك فيه: الرغبة في البكاء.
- يحرك فيه: الرغبة في الصياح. أليس المتألم يصيح ؟
لعل في الصياح تخفيفا لعبء يفوق الطاقة، وتنفيسا عن نفس عجزت عن التحمل.
إليكم القصة :
خبر جريح ؟!!
في جريدة عكاظ: السبت 15/04/1427هـ ) 13/ مايو/2006 العدد : 1791
ثمرة خطيئة جديدة تنضم الى قائمة الـ 6419 "لقيط الكرتون" يثير همّة المستشفى ويُجمّد حركة «الهلال»
خالد جفشر (الدمام)تصوير: سامي الغامدي.
"19داراً إيوائية في المملكة، تستقبل بانتظام الأطفال مجهولي الآباء، وقد بلغ عدد المستفيدين من خدمات هذه الدور، من العام 1400 حتى 1422هـ نحو: (6419)(1) طفلاً، منهم: (2376) من الإناث، و(4043) من الذكور.. فيما بلغت الأسر الحاضنة للأطفال مجهولي الآباء نحو 5159 أسرة، حسب آخر الإحصائيات الصادرة من الشؤون الاجتماعية.
زاد عدد الأطفال مجهولي الهوية أمس الأول واحدا،ً بعد أن انضم لقيط في الشرقية إلى القائمة.. وبات على الأسر الحاضنة أن تختار تبني الرضيع من عدمه!

رضيع في كرتونة :
لقيط لم يتعد الأسبوع الرابع والثلاثين من عمره.. تركته أمه قريباً من سور المستشفى واختفت وسط الزحام..! تعالت صرخات الرضيع وسط كرتون ورقي، اختارته الأم القاسية مهداً لصغيرها..
يبدو أنها شعرت بشيء من القلق على طفلها، وحرصت على حمايته بكرتون.. يحميه من لفح الشمس.. وخشونة التراب وحرارته على سور مستشفى الولادة والأطفال.
الزوّار في ذلك النهار، كانوا أمام ضيف بريء علت صرخاته.. وجعاً.. وألماً.. وربما غضباً من محيطه..
أب متعجل لا يضبط غريزته، وأم مات ضميرها فباعت صغيرها في لحظات نشوة طائشة ومجنونة، ومجتمع قاس لن يرحمه في كبره!.
مع صرخات الرضيع توافد الزوّار والفضوليون إلى موقعه، وهناك وقفوا متسمرين حائرين..؟!!.
صغير يبكي ذاته.. يبكي أمه.. وأباه، وأمام المشهد المؤثر أطلق كثير ممن شهدوا الموقف العنان لدموعهم..
كل المؤشرات تدل على أنه لقيط جار عليه أبواه.. ؟!!.
إنه ثمرة غير شرعية، لعلاقة غير شرعية نبتت بين اثنين..!!!.
مرارة شهود الواقعة زادت وتضاعفت، عندما ترددت فرقة من الهلال الأحمر في إسعاف ونقل اللقيط..، وقف «المتفرجون» حيرى، فجهات الاختصاص الموكولة لها الإسعاف والإنقاذ عادوا أدراجهم.. زاد بكاء الطفل أكثر من ذي قبل، ربما يبكي حاله". إلى آخر ما جاء في الخبر..

المجروحون يروون قصتهم.
في جريدة الوطن السعودية، الاثنين 13صفر 1427هـ،13مارس2006، العدد (1991) جاء ما يلي:
(يقرون بوضعهم ويضيقون بالإهانات ويحلمون بالهجرة
لقطاء يكسرون حاجز الخوف والخجل ويكشفون عن مكابدتهم اليومية)
جدة: عاصم الغامدي
قرر عدد من اللقطاء، أو مجهولي النسب، أو الأيتام - كما هو التوصيف الرسمي لهم - كسر حاجز الخجل، والتحدث إلى " الوطن " بكل صراحة عن واقعهم وأحوالهم ومكابداتهم اليومية، ولم يعبؤوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها فيما يعتبرون أنفسهم سائرين في نفق مظلم طويل، ويتمنون فقط أن يعثروا في نهاية النفق على بصيص نور أو بصيص أمل - كما يقولون!
وعلى الرغم من سوء معاملة المجتمع لهؤلاء، ونظرته الازدرائية لهم، وعلى الرغم من تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم جريرة لم يقترفوها، فهم ضحايا، وليسوا مجرمين من دون أدنى مراعاة لأحاسيسهم ومشاعرهم كبشر، تطولهم الآلام، وتجرح أعماقهم نظرات الاتهام والنبذ والتحقير.

أمام واقع مؤلم - كهذا - أبدى حسان وشريف ومشهور وعاطف وسواهم استعدادهم الكامل للحديث، وبث شكواهم على صفحات " الوطن " بغية التنفيس أولاً، وإيصال صوتهم إلى الجهات المعنية ثانياً، وتوضيح الصورة لهذا المجتمع الذي ينبذهم كما لو أنهم هم الذين قاموا بارتكاب الآثام.
في هذا اللقاء تحدثوا عن مسيرة حياتهم منذ أيام الطفولة وما صادفوه من إحباطات، وما لازمهم من معاناة، وأحزان كثيرة وفرحٍ قليل.

قال حسام: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي عندما أخبرتني المربية بذلك إن كلمة " يتيم " - في نظري - كلمة مطاطة كونها تشمل من فقد الأبوين كليهما، أو من فقد أحدهما فقط ، كما أن " اللقيط " لا يعرف أبويه، استقبلت الأمر برضا تام، خصوصاً وأنني وجدت من يعتني بي، فالإنسان ابن بيئته - كما يقولون - ولم أسأل عن التفاصيل، كيف وأين وجدت أو ماذا كان معي، بل حاولت أن أتغلب على أي شعور بروح الدعابة، وبالنظر إلى المستقبل المشرق بعينين صافيتين - كما قيل لي وقتها. وأول مشكلة واجهتني - يتابع حسام سرد مأساته - كانت عقب التحاقي بالمدرسة، وهي إحساسي بأنني وحيد في هذا العالم، وحيد وكأنني مقطوع من شجرة، وكنت ألوذ بالصمت القاتل عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة من محبة ودفء وحدب واهتمام ورعاية وسواها من العواطف الرائعة وكانت تغيب عن ذهني الأفكار عن طبيعة العلاقة الأسرية بين الأب والأم والأبناء داخل المنزل وخارجه.

ويكمل حسام حديثه قائلاً: ما ساعدني على تقبل وضعي ذلك التعاطف الكبير من زملائي في المدرسة، ومن آبائهم أيضاً، وعشت حياتي كما هي متخذاً من المصطفى عليه الصلاة والسلام قدوة لي، بوصفه نشأ يتيماً، وداخلني شعور رائع بأن كل هؤلاء الزملاء أصبحوا أسرتي، ومازلت على اتصال بالمربية التي تولت أمر تربيتي ورعايتي والتي أدعوها أمي، وكذلك مازلت على اتصال بسائر الزملاء في "الميتم"!.

وعاد حسام بذاكرته إلى البدايات الأولى، قائلا: فتحت عيني على هذه الدنيا فيما كنت في دار الحضانة بالرياض، ومنها إلى دار التربية وبعدها انتقلت إلى دار التربية الاجتماعية بالمدينة المنورة، حيث مكثت بها حتى الصف الثالث المتوسط، ثم تم إرسالي إلى المؤسسة بجدة، وهنا بدأت معاناتي الحقيقية، وسببها معاملة الإدارة لنا، وأقمت فيها برغم المعاناة مدة تصل إلى الثلاث سنوات، توجهت بعدها إلى المعهد المهني، وقبل تخرجي بأسبوعين تم طي قيدي من المؤسسة بسبب تغيبي، وذلك لأنني كنت أشارك في معسكر رياضي لنادي الاتحاد، دون أن أثبت لهم ما يؤكد ذلك.

ونفى حسام ما يشاع عن هؤلاء الأيتام من أنهم ساخطون على المجتمع، موضحاً أنهم إذا ما تعرضوا للقسوة سيكونون ساخطين، وكشف عن أحلامه، قائلا: إنه يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، لكونه يتوق إلى تعلم اللغة الفرنسية والعمل بالترجمة، فهو - كما يقول - لا يحمل أي مؤهل علمي أو أي شهادة دراسية تساعده في الحصول على عمل شريف يستطيع من خلاله أن يعيش حياة سوية. وحين سألته: ولماذا الهجرة إلى الغرب؟!

أجاب: هناك، أي في الغرب، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون، ولسنا بشراً كسائر البشر، جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا، فليس ذنبنا أن أتينا من المجهول وإنما هو ذنب من اقترف بحقنا هذه الجريمة!.

زميله عبدالقادر تحدث عن تجربته التي وصفها بأنها أكثر قسوةً ساهمت في حرمانه من التعلم، فهو لم يستطع إنهاء دراسته – كما هي حال حسام.
قال عبد القادر: فتحت عيني على الدنيا في مدينة الرس "بمنطقة القصيم"، وأذكر أن جميع المربيات في تلك الحضانة التي احتضنتني كن من الآسيويات، وعندما بلغت السابعة تمت إحالتي إلى دار التربية في القصيم نفسها، وعندما وصلت إلى الصف الثالث الابتدائي تم إلحاقي بقسم البنين ببريدة، وعندما وصلت إلى الصف الخامس تم نقلي إلى دار التربية بحائل، وفي الصف الأول المتوسط كنا 14 يتيماً، وتم تقسيمنا إلى مجموعتين، إحداهما أرسلت إلى الرياض، والأخرى إلى جدة.

وحين سألته متى عرفت حقيقة كونك يتيماً، أجاب عبد القادر: كان ذلك في العاشرة من عمري - تقريباً، وقبلاً، كانت كلمة "يتيم" تمر على مسامعي دون أن تعني لي شيئاً، وكانت معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي، وأفهمني أن كلمة "يتيم" يقصد بها الاستهزاء، والشتيمة، والإهانة والإساءة وعلى الرغم من أن كافة زملائي كانوا يعيشون وضعي نفسه، إلا أنني بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي، وبكل شيء.

ويتابع عبد القادر بحرقة قائلا:
بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية، كنت قد تجاوزت السن القانونية، فتمت إحالتي إلى فرع المؤسسة في جدة، وتم إلحاقي بإحدى المدارس المتوسطة، لكنني لم أستطع إكمال دراستي، فتم تحويلي إلى المعهد المهني "قسم التجارة" الذي لم يكن يتوافق وميولي، فلم أكمل الدراسة فيه، ويرجع عبد القادر كل هذه الإخفاقات في الدراسة كما يعيد كل مشاكله في هذه الحياة إلى كونه يفتقد للرعاية الأسرية والبيئة المستقرة، وكما نفى زميله حسام، نفى عبد القادر بدوره مسألة الحقد على المجتمع، مطالباً بمنحه فرصة حقيقية لبناء نفسه ومستقبله وحياته التي يراها صارت أقرب إلى الشظايا، أما شريف، فوصف هو الآخر تجربته مع اليتم بأنها قاسية، وأنها لا تختلف عن تجارب " زملائه " في المؤسسة، قائلا: بدأت حياتي في دار الحضانة بجدة، وفيها تعرضت للضرب القاسي من إحدى المربيات، وعندما بلغت السابعة، تم نقلي إلى دار التربية بالمدينة المنورة، وفيها كنت أشعر بأن المدير أبي، وأن المشرفين إخوتي، وعندما وصلت إلى المرحلة المتوسطة، ثم نقلي إلى مؤسسة التربية النموذجية بمكة المكرمة، وللأسف هذه المؤسسة اسم بغير مسمى، فهي لا تعي شيئاً في أساليب التربية، كما أنها لا تحمل من "النموذجية" شيئاً أبداً، ويتابع شريف حديثه قائلا: بكل صراحة أقول، إنني في هذه المؤسسة لم أجد أي تربية، ولم أحظ بأي رعاية، إذ لم يكن يسمح لنا بالخروج من الدار مطلقاً، وكان هذا القرار الصارم، وغير الإنساني، سبباً في ضياعي!! نعم لقد بدأت رحلة الضياع، فيما كان عمري "14 سنة" حيث قمت بالهروب مع الزملاء الأقدم، وفي هروبي هذا تعرفت على عالم المخدرات، وظللت أندفع من هروب إلى آخر مهما اختلفت مستويات ومضامين هذا الهروب لأنأى بعيداً عن "حقيقتي" المرة!!.

ويضيف: كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي" خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!. لم أمكث في مكة المكرمة سوى سنة واحدة، تغيرت فيها كل القيم والمبادئ الحميدة التي كانت تسكنني، وذلك نتيجة الهرب، ولجوئي للشارع وأصدقاء السوء في الحي، بعد هذه التحولات العميقة، أصبح وضعي داخل المؤسسة لا يطاق، خصوصاً وأنني تعرضت للضرب وسوء المعاملة، لدرجة أنني أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار عقاباً على هربي من سكن المؤسسة .
ويضغط شريف على الكلمات وهو ينطق هذه العبارة المليئة بالذكريات المؤلمة، قائلا: "لن أنسى أبداً حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي".

في الصف السادس الابتدائي، اكتشف شريف حقيقة كونه يتيماً وقال: عبر طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة، الأمر الذي دفعني أن أطرح الأسئلة نفسها على المسؤولين في دار الأيتام، لكني لم أجد لديهم إجابة شافية، وحينما أصررت على معرفة الحقيقة، قيل لي إن أبي وأمي قضيا معاً في حادث سير، وعندما كبرت، وشببت عن الطوق قليلاً، استوعبت الحقيقة وتوقفت عن طرح الأسئلة، ولم أعد أبحث عن أبي أو من يكون؟!.

روى شاب آخر اسمه عبد العزيز قصة حياة مترفة، عاشها ما يقارب 18 عاماً، واصفاً قصته هذه بأنها تختلف عن قصص الآخرين، وقال: كان بمقدوري أن أحيا حياة رائعة، وكان بوسع تلك الحياة لو استمرت أن تجعلني بعيداً جداً عن هذه المرارات، وأضاف عبد العزيز: " كفلني في بداية حياتي أحد رجال الأعمال الأثرياء ثراء ضخماً، فأتاح لي أن أتلقى تعليمي في الابتدائية والمتوسطة في أرقى مدارس جدة، وبعد أن رحل عن هذه الدنيا، كفلتني ابنته 10 سنوات أو يزيد، لكن، ومنذ مدة غير قصيرة، تم طردي من السكن الذي خصصته تلك السيدة الكريمة لي ولعدد من زملائي الأيتام وذلك لسوء سلوكي، فعدت للعيش في مؤسسة التربية، بعد أن خسرت تلك الرعاية المثالية التي حظيت بها، وها أنا الآن أشعر بندم شديد وحسرةٍ كبيرة على تلك الحياة الهانئة الرائعة التي عشتها، والتي تبددت معها كل أحلامي الجميلة، أما حقيقة وضعه، فقد اكتشفها عبد العزيز عندما كان في الثالث المتوسط، وحين لاحظت تلك السيدة الكريمة التي كانت تتولى رعايته ما طرأ على نفسيته من آثار سيئة قامت بعرضه على طبيب نفسي، وظل يراجع هذا الطيب حتى تم طرده وإعادته إلى سكن المؤسسة.

وقال عبد العزيز: صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.
وأضاف بأسى: كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط" ولا أنسى موقفاً حين تقدمت مع زملاء لي بشكوى لرجال الأمن ضد أشخاص تشاجروا معنا فسألنا المحقق عن مقر السكن ليكتبه في المحضر وحين ذكرنا دار الأيتام قال: تقصدون سكن اللقطاء، بخلاف شماتة الكثيرين من لفظ الإخوة الذي نستعمله فيما بيننا لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع ولا نعترف بأننا من سكان الدار وندعي الانتساب لإحدى القبائل، كما أن سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوته.

وبرر عدوانية الأيتام ولجوئهم إلى العنف لغياب من ينصفهم في المجتمع وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان معتبراً أن الموظف يؤدي عمله ليحصل على مرتب في نهاية الشهر ولا يمكن أن يقوم بدور الأب.
والمعاملة لا تتم بشكل مقنع بل تغلب عليها القسوة مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية، ورأى أن كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.
وعلق زميل لهم على ما ذكروه قائلا: القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.

وطالب الأيتام بتأهيل وتعيين مشرفين من نفس أبناء الدار؛ لأنهم سيكونون أقدر على تفهم أوضاع المقيمين فيها، وأشاروا إلى تجربة ناجحة، تم تطبيقها في دار الأيتام بالمدينة المنورة، خاصة وأن اليتيم يكون عرضة للاستغلال الجنسي، والنفسي، لتلبية احتياجاته المادية من مالٍ وملابس، والنفسية من حب ورعاية وحنان، وباعتبار المراقب صاحب أهم دور في مراكز الرعاية، فإنه يتعين أن يكون من الأيتام.

مقتطفات واعترافات جريحة.
1- لم يعبؤوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها.
2- تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية، حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم، جريرة لم يقترفوها.
3- قال: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي، عندما أخبرتني المربية.
4- كنت ألوذ بالصمت القاتل، عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة، من: محبة، ودفء، واهتمام، ورعاية، وسواها من العواطف.
5- يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، يقول: هناك، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها، تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون .. جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا!.
6- معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي .. بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي، فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي.
7- كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي"، خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!.
8- أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار، عقاباً على هربي من سكن المؤسسة.
9- لن أنسى أبدا حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي.
10- طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة.
11- صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.
12- كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط"، ولا أنسى موقفاً، حين تقدمت مع زملاء لي، بشكوى لرجال الأمن، ضد أشخاص تشاجروا معنا، فسألنا المحقق عن مقر السكن؛ ليكتبه في المحضر، وحين ذكرنا دار الأيتام، قال: تقصدون سكن اللقطاء.
13- شماتة الكثيرين من لفظ "الإخوة" الذي نستعمله فيما بيننا؛ لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع؛ ولا نعترف بأننا من سكان الدار؛ وندعي الانتساب لإحدى القبائل.
14- سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوتة.
15- وبرر عدوانية الأيتام، ولجوئهم إلى العنف؛ لغياب من ينصفهم في المجتمع، وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان، معتبراً أن الموظف يؤدي عمله؛ ليحصل على مرتب في نهاية الشهر، ولا يمكن أن يقوم بدور الأب، والمعاملة لا تتم بشكل مقنع، بل تغلب عليها القسوة، مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية.
16- كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة، فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ، تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله، فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.
17- القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات، التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.

مساحة الجرح.
من كلام هؤلاء المكسورين ندرك أبعاد وآثار هذا الجرح:
- فمن طفولة محرومة من: الأبوين، والإخوة، والأقرباء. محرومة من الأسرة والبيت..
- إلى ألم نفسي، وجرح عميق يكبر مع العمر واكتشاف الحقيقة.
- ومن عجز عن تصور ماهية وكيفية العلاقة الأسرية، ودفء الأمومة، وعاطفة الأبوة..
- إلى إحباط وتحطيم نفسي، ورغبة عن: الجد، والاجتهاد، والتحصيل.
- ومن نظرة سيئة من المجتمع، وإهانة وشتم يجرح الجرح نفسه، فيزيد في ألمه..
- إلى خوف من استغلال الآخرين لهم، لضعفهم وانعدام السند والعضد.
- ومن انعدام الحاضن والراعي، واللجوء إلى البيوت المهجورة، والانحراف الخلقي..
- إلى الميل إلى العدوانية، والانتقام.
- ومن الغربة، والوحشة، والوحدة القاتلة..
- إلى الرغبة في الهجرة إلى دول أوربية، غير مسلمة، لا تعير للأسرة قيمة، ولا تشترط لتقدير الإنسان واحترامه: ولادته من طريق شرعي؛ لعله يسترد شيئا من كرامة مفقودة، ويداوي نفسا مجروحة. مع ما قد يتعرض له من الفتنة في الدين؛ بالكفر بعد الإيمان..!!.
هي جروح، وليست واحدة: جرح في النفس، وجرح في العزة والكرامة، وفي العلاقة بالمجتمع.
فمن المتسبب في هذا القدر الكبير من الجروح المتشابكة، المتداخلة، الدائمة، التي إن حل بعضها، فبعضها الآخر لن يحل أبدا ؟.
إنها من قبيل النار إذا أحرقت شيئا، فكل شيء له علاج إلا الموت، والحرق .. ؟.

كيف حصل هذا الجرح؟!
ما ورد مؤلم، ومؤسف، ومحزن؛ فإنسانيتهم مظلومة، منتهكة، مجروحة جرحا لا يزول.. نعم لا يزول، وكيف له أن يزول ؟!!. وإن أول ما يقوله القائل هنا:
- من الذي جنى عليهم، فجرحهم هذا الجرح البليغ ؟، وهل يمكن القَوَد منه ؟.
الذي جرحهم: نصل حادّ؛ نافذ، قاطع، يهتك هو: العلاقة الجنسية المحرمة (= الزنا).!!.
والقصة تبدأ من النفس، التي جعل فيها غريزة الشهوة للجنس، والتلذذ به، وبها مال الذكر إلى الأنثى، والأنثى إلى الذكر . ولم يكن هذا الميل – في أصله – معيبا؛ إذ به تتحقق: المودة، والرحمة، والسكن، والتناسل. إنما العيب إذا اتخذ للتعبير عنه وسيلة غير مشروعة، هو: الزنا. دون الوسيلة المشروعة: الزواج.
وفي هذه القصص الجريحة: اتخذت وسيلة غير مشروعة..؟!.

ليس شيء يحدث فجأة، بل بمقدمات، فقد كان لهذا الميل غير المشروع مقدمات، أغرت به، هي كذلك غير مشروعة، من : نظرة – فتقارب – فكلام – فغزل – فلين – فميل وتعلق – فموعد – فلقاء – فعلاقة آثمة أنتجت: طفلا مجروحا..!!. من قبل اثنين، هما رجل وامرأة، التقيا على سخط الرب تعالى، وافترقا عليه، وتحملا جروح وآلام هذا الوليد الضعيف؛ الذي يفترض أنه ولد لهما، لو كان من طريق مشروع.

كلاهما اشتركا في هذه المقدمات عن قصد ودراية بالعواقب، وكان لكل منهما في هذه الجناية نصيب.
ولم يكونا وحدهما صاحبا هذه الجناية، بل كانا الممثلان المنفذان لخيوطها الأخيرة، المتصلان بها مباشرة:
- ومن ورائهما الذي نسج، وخطط، وأحب هذا المشهد، وتمناه وسعى إلى إيقاع الجنسين فيه.
- من ورائهما الذي ساعد، وخدم، وأعان، وفتح الباب، دون أن يدرك أنه يعين على جريمة.

فتلك الجناية ومقدماتها من فعل هذين، أما الخطوات الأولى فهي من فعل غيرهما؛ إذ لم تكن المقدمات والجناية إلا ثمرة وأثرا عن خطوات يسرتها، وأغرت بها، وفتحت الطريق إليها، هي:
1- قنوات فضائية: تعرض النساء كاسيات عاريات، يلبسن ما يبدي ويجسم، متغنجات، مائلات مميلات، يمثلن أدوار الزوجات والعشيقات، في: الأفلام، والفيديو كليب، وأكاديمي استار.. وغيرها من برامج الانحلال. يحصل فيها ما يكون بين زوجين، إلا النكاح الصريح، الذي تكفلت به القنوات الإباحية..
2- مجلات وصحف تفعل الفعل نفسه الذي تفعله القنوات، بالصورة والكلمات.
3- قصص وروايات تحسن، وتشجع، وتصف العلاقات المحرمة وصفا، يميل بالنفوس إليها.
هذه الأسباب خطيرة؛ لأنها تدعو بالتصريح، وبالإشارة والتلميح إلى إقامة مثل هذه العلاقة المحرمة.

وهذا أمر لا يخفى على أحد، يعرف حال هذه الوسائل، ومع ذلك فهي لم تكن لتكون فعالة، ذات أثر، لولا جملة من الأسباب الأخرى، التي فتحت الباب لحصول هذا الإثم. وهي:
1- خروج المرأة من بيتها، في زينة ظاهرة، وفتنة بادية، في عباءة كأنها الفستان، في الجمال وبيان المفاتن.
فإن خروجها على هذا الحال: حرك في النفوس – التي أفسدتها وسائل الإغراء الآنفة – نوازع الجنس والشهوة والميل غير المشروع، فصارت تسعى لتحصيل المتعة من خلال هذه المتزينة، الفاتنة، المفتنة، المفتتنة. بكل وسيلة تقرب هذه المتعة. وكم حصل من وراء هذا جناية وجرح..!!.
2- اختلاط المرأة بالأجانب، بداعي التعليم، وبداعي العمل.
فإن هذا الاختلاط قرب المرأة، فصارت هذه الفاتنة، التي هي فتنة الرجل، كما جاء في الوصف النبوي، في مرمى المتمني الراغب في الإثم. وهو يرى، ويسمع، ويقرأ كل يوم ما يدعو ويرغب في علاقة آثمة.
فإذا صارت المرأة قريبة إليه، فما عساه يفعل ؟!!.
3- غياب الرقيب، وهو ولي أمر المرأة، وتضييعه الأمانة، بغفلته عن حالها..!!.
فالمرأة مطبوعة على حسن النية، والغفلة عن مواضع الشر، والعاطفة تتحكم بها، يعرف هذا من له أدنى المعرفة، وينكره من أطبقت عليه الغفلة، أو استحكمت نفسه على المكر والخديعة..!!.
فإذا لم يقم وليها بصونها ورعايتها، وإلا فقد ضيعها..؟!!.

وأسّ هذه الأسباب ورأسها، الذي تحمل كل البلية: اختلاط المرأة بالرجال الأجانب؛ فإن الأمور التي تغري وتزين العلاقة المحرمة (الزنا) موجودة في كل زمان ومكان، لكن أثرها يبقى محدودا إذا التزم شرط الإسلام في المرأة في العلاقة بين الجنسين، وهو: الفصل بينهما، ومنع الاتصال.

دل على هذا الشرط: أمر المرأة بالحجاب. والحجاب في المصطلح اللغوي والشرعي: الحاجز المانع من النظر.
فإذا ما سقط هذا الشرط، فحينئذ تبدأ الأسباب كلها بالعمل والتأثير، وهذا أمر طبيعي..
فإن الغرائز مهما استثيرت؛ فأنى لها أن تتجه إلى المحرم من العلاقات الجنسية، ولا سبيل إلى المرأة أصلا؛ لبعدها وانفصالها عن الرجال، إلا عن طريق الزواج ؟.

أما إذا كان السبيل إليها قريبا؛ وذلك:
- إذا صارت تخرج وتلج من بيتها، كما يخرج الرجل، في زينة ظاهرة، بفتنة بادية، فتركت القرار.
- أو صارت تختلط بالرجال بداعي العمل، والعلم.
- وولي أمرها غافل، تارك للمسؤولية، لا يرعاها، ولا يصونها من الأشرار.
فإن الغرائز المستثارة ستجد مكانا لإشباعها، ومنه ينتج هذا: المجروح المعذب، والمتألم، والخائف، والحاقد، والمنتهك، والكسير المجروح. المسمى باللقيط..!!.

__________________
(1) هذا الرقم مؤشر على عمق المشكلة، وحاجتها إلى الرصد، والدراسة، والعلاج. فهذه الآلاف ما مصيرها ؟!.