أنت هنا

مثقفو المارينز أو الليبراليون الجدد
8 ربيع الثاني 1427

يخطئ من يتصوّر أنّ حالة الانقلاب صفة ملازمة للفعل السياسي في المشهد العربي العام، حيث درجت العادة أن تنقلب زمرة من الجنرالات على زمرة أخرى أو زمرة من الضباط ورجال المخابرات على السلطة السياسية.
هذه الانقلابات أو العسكريتاريّا التي طبعت حياتنا السياسية منذ أزيد من نصف قرن تقريباً، فغير الانقلاب العسكري والسياسي هناك ما يسمى بالانقلاب الثقافي، حيث ينقلب المثقّف أو شبيه المثقّف أو المثيقّف على منطلقاته الأيديولوجية والفكرية والمفاهيمية وأسسه المعرفية، وهذا وإن دلّ على شيء فإنمّا يدلّ على هشاشة المبنى الفكري لقطاع كبير من مثقفينا الذين تأرجحوا في آرائهم وأفكارهم وانتقلوا من النقيض إلى النقيض، كما تفسّر هذه الهشاشة عدم انتصارنا في المعارك الحضارية الكبرى التي خاضها وما يزال يخوضها واقعنا العربي.

وفي يوم من الأيّام وعندما كنت أقيم في بيروت وأعمل في صحافتها كتبت الروائيّة الجزائرية مقالة بعنوان "الكتابة لحظة عري" فرددت عليها بمقالة بعنوان "الكتابة لحظة وعي" أوضحت فيها أنّ الوعي هو أساس الإبداع والكتابة وليس العري الذي بات ملازماً لقطاع كبير من مثقفينا، وتحديداً بعد الغارة الأمريكية الكبرى على العالم العربي والإسلامي .

وفي هذا السيّاق لا أشير إلى رهط من المثقفين العراقيين أو مثقفي الدبّابة أو مثقفي المارينز الأمريكي _إذا صحّ التعبير_، بل أشير إلى قطاعات واسعة من المثقفين في المغرب العربي كما في مشرقه غيروا أفكارهم كما غيروا ستراتهم وباتجاه المحور الأحادي الذي تجسدّه الولايات المتحدّة الأمريكية.

هناك العديد من المثقفين العراقيين والعرب كانوا محسوبين على المحور الاشتراكي واليساري، وبعضهم كان يتعامل مع الستازي – مخابرات ألمانيا الشرقية سابقاً – وانتقلوا فجأة إلى التعامل مع وكالة المخابرات الأمريكية، وجعلوا من الولايات المتحدة الأمريكية منقذاً ومصلحاً وملهماً للنهضات بعد أن كانت في مفردات فكرهم تعني الرجعية والإمبرياليّة والاستعمار والاستدمار وتفقير الشعوب، والثقافة الرأسمالية والبورجوازيّة، وبدون سابق إنذار، بل وبدون مراجعة فكرية دقيقة لمنطلقاتهم الفكرية تحولّ المحور الإمبريالي إلى محور الخير يجب شكره على ما يقدمّه للشعوب من خدمات حضارية جليلة حتى لو قام هذا المحور باغتصاب كل النساء العربيات، فهو يستحّق الشكر؛ لأنّه يقوم بفعل تحريري تحررّي.

وبعد أن كانت الليبيرالية مدرسة استعمارية وإفرازاً طبيعياً للعقل الاستعماري الاستغلالي، فقد أصبحت ملاذاً للعديد من المثقفين الذين طلقّوا منطلقاتهم الفكرية السابقة، وانضووا تحت ما يسمى بالليبيرالية الجديدة، التي بات بعض المنتسبين إليها يبررون كل الفعال التي تصدر عن أمريكا تماماً كما كانوا يبررون سابقاً جرائم الاتحاد السوفييتي، وخصوصاً عندما كان الأمر يتعلق بالمسلكية السياسية لهذا الاتحاد في العالم العربي والإسلامي.

ولا داعي للتذكير هنا بأنّ قسماً من المثقفين العرب أيدوا تقسيم فلسطين؛ لأنّ موسكو دعمته في جمعية الأمم المتحدة، وبعض الذين انتهى بهم المطاف إلى الليبيرالية الجديدة كان ولا يزال شاذاً جنسياً، ويدعو إلى منح الحريّة للشواذ واللوطيين في العراق على سبيل المثال، وعلى حدّ علمي فإنّ الليبيرالية تعني رفع القيود عن العقل لا عن الشهوات والملذات.

وهذه الحالة الانقلابية لا نجدها فقط في هذا الفصيل الثقافي الذي خرج من عباءة كارل ماركس وتروتسكي ولينين إلى ثقافة آدم سميت وفرانسيس فوكوياما وغيرهما، بل هناك مثقفون يغيرون جلدهم يومياً لا لشيء إلا للبحث عن المواقع والمناصب والامتيازات، ففي الجزائر ترك بعض الروائيين الذين كانوا يكتبون باللغة العربية لغة الضاد، وباتوا يكتبون بلغة موليير تملقاً للمستعمر الفرنسي القديم الجديد، وبحثاً عن بعض الجوائز وبحثاً عن العالمية المزيفة، حيث يظنّ هذا الفصيل من المثقفين أنّ مجاراة الغرب هو الموصل إلى الشهرة، كما أنّ هناك فصيل من المثقفين وبمجرّد أن قطنوا في الغرب راحوا يرجمون موروثهم الحضاري وحضارتهم العربية والإسلامية، ويطالبون بمحاربة الإسلام والثقافة الغيبية التي غيبّت العقلانية والحداثة، ومع كل ما كالوه لحضارتهم فإنهّم لم يحققوا أدنى شهرة تذكر إلى درجة أنّ باحثاً هولنديّاً قال: نحن نعرف هؤلاء المنافقين الفكريين الذين يمدحون حضارتنا ويسبون حضارتهم بحثاً عن عطايانا ومنحنا، فالأولى لهم أن يخلصوا لحضارتهم.

وأخطر ما في الانقلابات الفكرية والثقافية في واقعنا الفكري أنّ الانتقال الفكري لا يتم بالتقسيط وضمن دوائر ثقافية موجودة ضمن خارطتنا الثقافية، بل إنّ الانقلاب يتم بنسبة 180 درجة من المرجعية الحمراء إلى المرجعية الأمريكية السوداء، ومن النقيض إلى النقيض، ولا يمكن أن يكون الطغيان والاستبداد والديكتاتورية هي السبب في هذا التغير نحو الأسوأ، فأنا بإمكاني أن أستمّر في قولي بأنّ صدام طاغية ومجرم وسفاح، وكذلك كل الطغاة في العالم العربي دون أن أترك منطلقاتي ومسلماتي وبديهياتي، والتي من مقوماتها أنّ أمريكا لا يمكن أن تريد لي الخير ولأمتي، فالمصلحة الأمريكية هي أولاً وثانياً وثالثاً.

وعلى صعيد آخر ماذا قدم لنا الانقلابيون والاستئصاليون الفكريون في العالم العربي، فمبناهم الفكري هشّ ولا ينطلقون من أسس فكرية صلبة ولا من أرضية ثقافية حقيقية بقدر ما يرددون مجموعة من الشعارات سبق للثورات الغربية أن رددتها، فهم يطالبون بالعدل، وأنا أطالب به ومستعد أن أموت دون ذلك، لكن الفرق أنّهم يقولون أنّ هذا العدل تقيمه أمريكا، وأنا أقول: تقيمه أمتي، وبالأمس القريب كانوا يقولون: إن موسكو هي التي تقيمه.

إنّ المثقف الذي ينتقل من مرجعية إلى أخرى، ومن محور إلى آخر مستعد أن يبيع أمته لمن يدفع أكثر تماماً كما تحوّل فصيل من مثقفينا من التعامل مع الستازي إلى التعامل مع المخابرات الأمريكية، ولو أصاب أمريكا الوهن وانهارت كالاتحاد السوفييتي، وبرزت الموزمبيق كقوة عظمى لرفعوا لواء الموزمبيق، وهذا الفصيل من المثقفين لا فرق بينه وبين الراقصة التي تغيّر ثيابها المزركشة في كل وصلة تؤديها، ثمّ أليس هم أقرب إلى ثقافة الرقص والهزّ منه إلى ثقافة البناء والنصّ.

وفي الوقت الذي يتبجّح فيه اللبيراليون الجدد بالديموقراطية، فإنّهم يطالبون صباح مساء بوأد الثقافة الإسلامية واجتثاثها من تربتها، وإحلال ثقافة التشوّه وثقافة الإحلال أو الاحتلال مكانها، وقد نظرّ هؤلاء الليبيراليون لثقافة الاستئصال، والتي برعوا في تأصيل مفرداتها.
وأهمّ ميزة لليبيرالية الجديدة هي الاستئصال، حيث يتعاطى هذا التيّار في تعامله مع كافة تفاصيل الواقع بمنطق الاستئصال والاستئصال فقط، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالثقافة العربية والإسلامية والنص القرآني والنبوي المقدسيّن.

وقد أدّت ثقافة الاستئصال التي تدخل في تركيبة الليبيرالية الجديدة إلى تفجير الجدار الوطني، وإشعال الفتنة الكبرى في أكثر من جغرافيا عربية، وكان بإمكان النخب العربية المتأمركة لو انفتحت على الأمّة بنسبة عشرة بالمئة فقط أن تحلّ الكثير من المعضلات، وعلى رأسها انبعاث الحروب الأهلية الداخلية، والتي أفضت إلى تدخل الإرادات الدولية في واقعنا كل واقعنا بحجّة حماية حقوق الإنسان والأقليات الإثنية المضطهدة، وتبعث لنا المشروع تلو المشروع للإصلاح، وتغيير الأحوال من السيئ إلى الأحسن.

بل إنّ هذه النخب وعندما شككّت في ثقافة الأمة وادعّت أنّ الأمة عاجزة عن صناعة نهضتها بما تملكه من فكر قرآني راحت تقدم البديل الثقافي العولمي المستغرب، بل راحت تبشّر بالدبابة الأمريكية التي ستنشر هذا الفكر، تماماً كما رحبّت بعض النخب العربية المثقفة في بداية القرن التاسع عشر بالحركة الاستعمارية، وعدتها بداية الانطلاق النهضوي في العالم العربي أو كما قال طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بأنّ العالم العربي لن يتقدّم إلاّ إذا قلدّ الغرب حذو القدّة بالقدّة.... ففي الجزائر وعندما قررّت الدبابة استئصال المسجد، وعندما قررّ أبناء فرنسا أو أبناء فافا كما يسميهم الجزائريون استئصال أبناء باديس، اندلعت حرب أهلية راح ضحيتها نصف مليون جزائري بين قتيل ومفقود، وفي تونس عندما قررّ قصر قرطاج وأتباع الثقافة التنويرية الفرانكفونية استئصال الزيتونة ورجالها , وعندما قررّ التغريب استئصال الأصالة دخلت تونس في أسوأ مراحلها، حيث ملّت منظمات حقوق الإنسان من المطالبة باحترام حقوق الإنسان في تونس، وهكذا دواليك في معظم الجغرافيا الإسلامية، وأبرز مثال حيّ أمامنا، هو: المثال العراقي.