أنت هنا

جهود العلماء والمحتسبين بين النفع والنقد
26 ربيع الثاني 1427

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه.. أما بعد..
فقد حان وقت صلاة الظهر وأنا بإزاء مسجد كبير معمور في طرف أحد القصور الأميرية، على حافّة أحد الطرق، فتوقفت عنده لأداء الصلاة، وما إن انصرفت من السنة القبلية بالسلام عن الشمال حتى كان وجهي أمام وجه شيخنا العلامة محمد العثيمين – رحمه الله تعالى - فسررت كثيرا برؤيته وسلَّمت عليه، ولم أجرؤ على سؤاله: ما سرّ وجوده في الرياض في وقت لا يتجاوز فيه عنيزة في العادة! بلْه سؤاله عن سرّ وجوده في هذا المسجد بالذات!.. لا أشك أنَّه قرأ في وجهي شيئاً من ذلك، كما لم أشك أنَّه جاء لهدف كبير ونبيل.. كتمت الأمر في نفسي وانصرفت؛ ثم علمت فيما بعد أنََّ هذه الزيارة ليست سوى إحدى زياراته المتكرِّرة، ضمن جهوده الشخصية – رحمه الله – في النصح والاحتساب، والاتصال المستمر بولاة الأمر في رعاية مسيرة الخير. بعد هذا المدخل، أنتقل إلى طرح الموضوع..

1) إنَّ من نعمة الله عز وجل علينا في هذه البلاد: أنَّا ولدنا على الفطرة، وبقينا بحمد الله - عز وجل- عليها مسلمين؛ فنشأنا – بفضل الله ورحمته - على احترام العقيدة، وتحكيم الشريعة، والولاء الصادق لولاة أمرنا من العلماء والأمراء، ولم يشعر جيلنا الذي يُحّلِّق بين جناحي العلماء والأمراء، بأزمات طيران من النوع الذي يتمناه المتربصون بالأمة، المتسلسِلون بسلاسل أعدائها.. نسأل الله عز وجل أن يديم علينا نعمته ويزيدنا من فضله.

ثم إنَّ مما منّ الله به علينا في هذه البلاد المحافظة، شعيرة نادرة التنظيم في المجتمع الدولي في هذا العصر إن لم تكن معدومة، هي في ديننا من واجبات الأمة، ومسؤوليات الولاية عليها، إنَّها شعيرة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فالقيام بها جزء من رسالة الدولة الإسلامية، وهذا ما لم يغفل عنه ولاتنا – وفقهم الله لما فيه خير البلاد والعباد – إذ جاء النصّ على مسؤولية الدولة عن هذه الشعيرة، و تحمّلها لهذا الواجب، في المادة (الثالثة والعشرون) من النظام الأساسي للحكم، صريحا واضحاً: (تحمي الدولة عقيدة الإسلام.. وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. وتقوم بواجب الدعوة إلى الله).

ولمَّا كان النصح المخلص، طريق الإصلاح الوفي الصادق، فلا غرابة أن يوجِّه ولي أمر المسلمين في بلادنا نداءً حاراً يطالب فيه الرعية بنصحه، وهذا ما دأب على الوفاء به علماءُ الإسلام المخلصين، والدّعاةُ الصادقون، ورجالُ الوطن المحترمون.. ومن ثم فلا غرو أن يتصدى هؤلاء الحماة الفضلاء، لكل ما يرون فيه خطراً على الدِّين الذي ارتضاه الله لنا، والمجتمع المحافظ الذي نعيش بفضل الله في كنفه، سواء كان هذا الخطر قائما أو متوقعا.

2) وفي كل حين ينفر من رجال الأمة المخلصين من يسقط عن بعضها الواجب الكفائي في الاحتساب في موضوع ما، ويجد بحمد الله من يُقدِّر حرصه وجهده من ولاة الأمر، فللجميع منّا الدعاء..

ولْنُشِرْ إلى بداية المسيرة المباركة - بإذن الله – لعلماء المملكة ودعاتها في هذا المجال ، لتتوارثه الأجيال في بلاد الحرمين، وليفيد منه غيرهم ممن قد لا يملكون تجربة مشابهة في ذات المجال.. فالمكان: المملكة العربية السعودية، والزمان: حين النمو الأول وما تبعه، والقصّة كما يلي: نشأت الدولة، وكان هناك حاجات ومستجدات تتطلبها الدولة العصرية التي تحمي الوطن، وترعى المواطن، وتساهم في التنمية، وكانت هناك حلول وطنية محليّة لا إشكال فيها، وأخرى جاهزة يمكن استيرادها، ولكن الدولة التي قامت على التوحيد، تدرك أنَّ رسالتها وشرعيتها تقوم على المنهاج الإسلامي عقيدة وشريعة، ديانة و قناعة، ومن ثمَّ كانت اللقاءات العديدة والاستشارات المتتالية، والمكاتبات المتبادلة بين سؤال وجواب، واجتهاد وتصحيح، وتصرف ونصح، وكانت هذه المراجعات - المدوّن بعضها في مثل فتاوى شيخ مشايخنا مفتي الديار السعودية حينها العلامة الشيخ محمد بين إبراهيم رحمه الله - بين أهل الولاية السياسية الإدارية، الذين يطرحون الحاجات الحكومية للدولة العصرية، ويقدِّمون الحلول والآليات، و بين أهل العلم الذين يبدون رأيهم الشرعي ونصحهم الدِّيني في ذلك؛ فيُقِرّون منها كثيراً، ويعدِّلون بعضاًً لجعله أسلم، وينصحون باطِّراح ما لا يرون إمكان إقراره، إمَّا في الحال المشهود، وإمَّا في المآل المنتظر، مع البيان والتعليل..

3) وثمة أشياء قليلة متناثرة يطرحها بعض المنظِّمين، أو يفعلها بعض المواطنين، ويأباها أهلُ العلم لما يرون فيها من تجاوز، ولكنها تبقى منفّذة، يسير فيها من يسير، وينفر منها من ينفر، ولا يتجاوز العلماء فيها دورهم المخلص في النصح وتكراره، وتكون الحال فيه ما بين ضمير يؤنِّب ويحاول، وضمير يرعى حق الولاية عليه، فالعالم ينصح صاحب القرار، وصاحب القرار يتعهد بعدم حصول المضارّ.

وقد يبقى الأمر حرِجاً، ويأخذ الزمن دورته، وتعاد صياغة بعض الموضوعات، فتوجد ضمانات، أو تجرى تعديلات، أو يُطرح بديل مناسب، فتسير الأمور على نحو يلتقي فيه القرار مع الشرعية، فتتطلب الحال الجديدة فتح الذرائع المشروعة، التي كانت مسدودة قُبيل الصياغة الحديثة للآلية أو الحلّ أو التصرف محل الإشكال..

ويُلحظ في هذه الصورة وأمثالها أنَّ العالِم لم يتغير في منهجه أو يتراجع عن فتواه؛ وغاية ما في الأمر أنَّ مناط الحكم قد تغيّر لتغيّر الحال، فوُجِدَت حال جديدة لها حكم مختلف، وإن كانت الصورة مشابهة في الظاهر، لكن الفتوى لا زالت ثابتة في الحال الممنوعة؛ وهنا ظنّ من لا علم عنده بفنّ الفتوى وأصول الاستدلال: أنَّ الحكم تغيّر، ومن ثمّ تساءل – لجهله -: كيف يحرِّم العلماء كذا وكذا، ثم يحلِّلونه بعد ذلك مع مرور الزمن؟! ومتى كان التحليل والتحريم هوى عالم حتى يشرع من دون الله!

عوداً على بدء فإنَّ نفع هذه الجهود الخيِّرة – على المستوى الرسمي والشعبي - أظهر من أن يُجْحَد، وخيرها على البلاد والعباد أكبر من أن تُقلِّل منه حملات إعلامية شانئة، بلْه نقد بعض المُنقَذيَن برجال الحسبة من السوء، في مجالس الناس..

4) ولمَّا كانت المتغيرات في شأن المنكرات كثيرة، ووسائل الإفساد متجدِّدة ومتطورة، مرّة تأخذ صيغاً جديدة قد ترتقي إلى درجة التنظيم أو ما يعرف بالجريمة المنظَّمة، و ربما في هيئة مشاريع مستوردة، يرعاها الأجانب صراحة أو تمويها، ومرّة تتخذ من بعض الأخيار آلية ترويج، ولبوس مشروعية، حتى وجد من ينتقد الثوابت تحت شعار حقوق الإنسان، أو ادعاء الوطنية، ووجد من يحسن الظن بالعدو المتربص الذي لم يعد يواري عداوته، بلْه أهل السوابق ممن لم يعلنوا توبة..

ولمَّا كانت المستجدات قد تُورث تغيراً في الحكم لتغير المناط، كالشأن فيما كان المنع منه مندرجا تحت قاعدة سدّ الذرائع أو كان مندرجاً تحت قاعدة فتح الذرائع، وكان أمر بعضها يتطلب إعادة النظر من أهل العلم الشرعي المعتبرين - الذين لا يتهمون في الدين - في توارث كونها منكراً حين وجود المناط المانع، أو كونها ليست منكراً حين انتفاء ما يوجب تصنيفها في المنكرات، ونحو ذلك مما يجري مجراه أو يلحق به، كإنكار رمي الجمار قبل الزوال..

ولما كانت وجهود المصلحين جهوداً بشرية، تُستَحدَثُ فيها الوسائل، ويفادُ فيها من التجارب، ويعتريها في الجانب الآخر ما يعتري التصرف البشري من القصور والخلل مع الاجتهاد في تحري الصواب أو لقصور في التأهيل أحيانا، أو استفزاز ميداني ربما يُخرج عن الطور، ونحو ذلك من العوارض الميدانية..

لمَّا كان ذلك وغيره؛ فإنَّ من المستحسن الذي تختلف درجات مشروعيته باختلاف الحاجة إليه، مراجعة تلك الجهود على نحو يزيد القناعة بجدواها، والإفادة منها أكثر وأكثر على نحو يناسب سرعة التغير، ويسابق أهل الفساد بوسائل المنع قبل الدفع، من خلال اقتراح البدائل، وإسقاط الفاسد من البرامج..

ويمكن في ظني ضبط ذلك بضوابط من أهمها ما يأتي:
أولاً: الانطلاق من آلية مشروعة، تتمثل في النقد البنَّاء للجهود الاجتهادية، والتصرفات الاحتسابية بهدف التأكيد عليها والبحث عن الآليات الأصلح مظنّة تحقق الأنفع؛ لا نقد أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يريد دعاة المشاريع المفسدة، من مثل وصفهم لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – استنكاراً - بأنَّه: وصاية على المجتمع. ونقول لهؤلاء: هل الولايات في الإسلام – وفي كل السياسات العقلية في العالَم - على تنوعها وتعدد درجاتها إلا رعاية للشعوب والأمم بالوصاية عليهم!

ثانياً: أن يُطرح ذلك وفق أساليب قياس ناجحة، تُنتقى بعناية، سواء كان ذلك على المستوى الرسمي برعاية جهاز الحسبة في السعودية على سبيل المثال، أو على المستوى الشعبي بين أهل العلم ورجال الاحتساب برعاية جهات خيرية معروفة في أي مكان، مع وجود إشراف ولائي يضمن تفعيل توصياتها برعاية أهل الولاية والشأن.

ثالثاً: رصد الإيجابيات المشهودة الموثَّقة قبل ما يُظن من السلبيات، وعرض الفوائد – إذْ هي الأصل والهدف الذي تتطلب المرحلة إبرازه - قبل ما يُظنّ من المفاسد، ثم يُعَرَّج على النتائج التي تم رصدها، ويقاس صدقها، وتُعرض على أهل الشأن قبل الجزم بصحتها، ورصد ما يثبت من أخطاء، بعد التأكّد منها من مصادرها الأصلية، وعدم الركون إلى عبث الجرائد، وكذب المراسلين، وافتراءات المفترين.

رابعاً: أن يُفَرَّق بين الاحتساب على أهل المشاريع المفسدة وما شابهها، كالتغريبية والتخريبية، والاحتساب على الوقائع الفردية الجارية في كل مجتمع، والتفريق بين ما يجب سدّه من الذرائع، وما يشرع فتحه، كما هي الآلية الشرعية المعهودة في معالجة الأمور.. وأن يراعى في التفريق بين المنكرات درجاتها لا مجرد نظرة المجتمع إليها وموقف العامة منها، ليربَّى النّاس على المعايير الشرعية، فيدركوا المتغيرات حين وجود مناط شرعي للتغيير، ويدركوا عظمة الشريعة وبعض معاني مرونتها.

خامساً: أن يتم النقد البنَّاء وفق آلية تصحيح واضحة ناصحة: مبنية على دراسة وافية.. دراسة نظرية: تؤصِّل فقه الاحتساب على أهل المشاريع، وأساليب الاحتساب على الأفراد؛ ودراسة ميدانية: تجمع المعلومات، و تستخرج الأرقام، وتحسب النتائج، وتلتقي المحتسبين، وتسجِّل آراءهم، وتلتقي من يمكن لقاؤه من ذوي العلاقة بوقائع يُرى أهمية نقدها.

سادساً: أن تقيم النتائج وفق ضوابط الاحتساب، وقواعده المعروفة لدى أهل العلم، وليس وفق ما يطرحه أهل الغواية والتلبيس أو من تأثر بتلبيسهم، ويمكن اعتماد بعض القواعد المؤصّلة لدى أهل العلم، من مثل قول ابن القيم رحمه الله في التقعيد العام لشروط الاحتساب: "إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شرِّ وفتنة إلى آخر الدَّهر... ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر؛ فطلبَ إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لمّا فتح الله مكة، وصارت دار إسلام، عَزَمَ على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم، ومَنَعَهُ من ذلك - مع قدرته عليه - خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حَدِيثي عهدٍ بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء"(1).

وقوله أيضاً - رحمه الله - فيما يتعلق بمراعاة المآل عند الإنكار: " فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة "(2).
فتقاس جهود المحتسبين من خلال النظر في النتائج وفق هذه الدرجات مثلاً. فيكون تحقق أولاهما من الإيجابيات، ويكون وقوع الأخيرتين من السلبيات.

سابعاً: أن توضع النتائج المستخلصة، في قوالب نصح وتوجيه بعيدة عن ذكر الأسماء، وتُنْشَر في توصيات معتمدة، وتنبيهات مؤصَّلة ليفيد منها ذوو الشأن في التنظيم والضبط، وفي التطبيق الميداني.

ثامناً: أن ينشر ما يمكن نشره ويحتاج إليه الكافّةُ من الحقائق، التي تكشف كذب المغرضين، وتدحض شبه المتربصين، وتوضِّح الأمر للمتشككين، ولو من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنَّها صفية"؛ فإنَّ الإحصاءات تدل على شأن الاحتساب في جميع المنكرات حتى في الجرائم الجنائية، والقبض على المطلوبين في جرائم أخرى.

تاسعاً: إلى حين تحقق هذه المطامح السابقة، ينبغي التأكيد على ثلاث قواعد مهمة في هذا الباب:
الأولى: النصح الراشد ضمان الحكم الرشيد. فهو أمان بإذن الله تعالى من خطر تغلغل المناهج الفاسدة والطرق الفاشلة؛ ففيه الخلاص – بتوفيق الله ونصره – من انحرافات الفئة الضالة، السائرة على نهج الخوارج، الممقوتة تجريم وتشنيع قتل النفوس المعصومة في غير ما آية من سورة النساء؛ وفيه الخلاص من تحريفات الفئة المُضلّة المُضَلِّلَة، السائرة على نهج، إخوان القردة، قتلة الأنبياء والمصلحين، المدون شأنهم في غير ما آية من أوائل سورة آل عمران، وما جاء في النصوص الأُخر، من أكلهم للربا قصداً، وافتتانهم بالنساء جهراً، مع تضييعهم للدين تحريفا وتلفيقا، وتحذيرنا من عاقبة أمرهم في آية الحشر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.

الثانية: موقفُ العلماء الربانيين أمانُ الشرعية في الطرح والنصح والتعامل. فعلى المسلم الصالح محتسبا كان أو غيره، أن يرتبط بأهل العلم والديانة، وعلى رأسهم في بلادنا أعضاء هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وغيرهم ممن عرفتهم الأمة وشهدت لهم بالعلم والفضل والوسطية الشرعية، من العلماء الناصحين والدعاة المخلصين.

الثالثة: لابد من التصور الصحيح، لضمان التصحيح. فلا ينبغي أن نقيِّم جهود الناصحين بالنظر إلى ما آل إليه محل النصح فحسب، بل بدراسة جديَّة دوافع النصح وحقيقة دواعي التصحيح ومستنداته في أرض الواقع؛ فإذا كانت دوافع النصح ودواعي التصحيح موجودة في أرض الواقع، وآل الأمر إلى انتفائها، فإننا نجزم حينئذ أن النصح قد وقع موقعه، وأن المنصوح قد تدارك الأمر وأفاد من دلائل الناصحين.

وأخيراً: لا شك أنَّ النقد البنَّاء مطلب مهم، ينبغي أن نتدرَّب على تقبله، وينبغي أن نمارسه بحرفية عالية، لا أن نخوض فيه ونتنادى إليه بوصفه موضة حقبة جديدة.. فما أجمل أن تخضع جهود المصلحين لورش عمل تجمعهم وتجمع معهم من له بها عنايةُ محبٍّ ناصح وأمانةُ محدِّث صادق، لترقى تلك الورش بآليات أداء هذا الواجب، على نحو آمن يحقق مصلحة الأمة وأمن المجتمع، وتقضي على الجدل في كثير من وجهات النظر، قبل إشغال النَّاس بها عن الأهم والمهم، وقبل إهدار الوقت في مطارحات لا تخلو – بالنظر في الواقع – من النقد لذات المبدأ، أو النيل من محبٍّ أخطأ، فيقع بعضنا في إيذاء مؤمن حذَّر الله عز وجل من إيذائه في مثل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً }، أو الخلط بين الحقيقة والظنَّ – وربما التخيّل، فيسير بعضنا خلف إشاعات تتطلب التثبّت والتبيّن، قبل التعامل معها كما لو كانت حقائق، في مثل قول الباري عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وأخطر من ذلك كلَّه أن تُستَخرج نتائج تقييم بعيدة عن الواقع، مما يجعل التقويم أبعد عن تحقق الهدف الصادق.

وفي نهاية المقال أود تعطيره بفائدة عن شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله، ذلك أنَّني سمعته ما لا أحصي يكرر وعظه للناس ولطلاب العلم بين يديه، بآية التوبة.. قول الله عز وجل: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"؛ قال ابن القيم: "بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فما أعظمها موعظة، وما أنفعها طريق إصلاح.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا بمنه وفضله لما يحبه ويرضاه، وأن يغفر لنا الزلل في القول والعمل، وأن يوفق ولاة أمرنا من الأمراء والعلماء لما يحبه ويرضاه، وأن يجمع كلمتهم على الحق، ويوفق مسيرتهم في إصلاح الخلق.
هذا والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله.

______________
(1) إعلام الموقعين:3/15-16.
(2) إعلام الموقعين:3/16.